منذ خطواتها الأولى، ارتبطت الحركة السينمائية المغاربية، في بعدها الثقافي، ارتباطاً وثيقاً بالقضية الفلسطينية.
في الجزائر، اعتُبرت توأماً لنضال الثورة الجزائرية للتحرّر من الاستعمار الفرنسي وامتداداً طبيعياً لها. "سنعود" (1972) لمحمد سليم رياض من الأفلام المؤسِّسَة للسينما الجزائرية، بما في ذلك اعتمادها على الدعم المؤسّساتي، لمُشاركة "جبهة التحرير الفلسطينية" في التحضير له، وصوغ طرحه، المتمحور حول شابٍ يُقرّر تنفيذ عملية فدائية، كردة فعل على يوميات المعاناة والوجع الفلسطينيين، تحت وطأة الاحتلال، وآلته القمعية.
في المغرب، كانت "أسابيع السينما الفلسطينية" من الأنشطة الأولى التي دأبت "الجامعة الوطنية للأندية السينمائية" على تنظيمها في 30 مارس/ آذار (يوم الأرض الفلسطيني) كلّ عام، في مدن مغربية عدة، بعد تأسيسها عام 1973، بمبادرة من نور الدين الصايل.
هذه الأسابيع مناسبة لتجديد عقد الالتزام بمساندة النضال الفلسطيني، للتحرّر من قيود الاستعمار، ونيل حقوقه كاملة، باعتبار هذا الالتزام امتداداً لفلسفة التيار اليساري التقدمي المغربي، الساعية إلى مُناهضة الاستبداد، وإرساء دعائم الديمقراطية الشعبية. تنصّ على ذلك مواثيق معظم الحركات اليسارية التي كانت تتبنى وتُطوِّر، كما في المجلة الثقافية الرائدة "أنفاس"، مفهوم "المسار الثالث"، المتمثّل في البحث عن خطابٍ سياسي وفكري راشد للبلدان المتحرّرة حديثاً من الاستعمار، ينأى بها عن الاصطفاف المنقاد في الصراع القطبي، الدائر آنذاك بين المعسكرين الغربي والشرقي، ويقودها إلى انخراط وجداني ومادي في مساندة معارك استكمال تحرير الدول التي كانت لا تزال ترزح تحت نير الاستعمار، وعلى رأسها فلسطين. كما تجسّد البعد المادي لهذا الالتزام في "مساهمة مالية لفائدة الشعب الفلسطيني"، تتشكّل من نسبة تُقْتَطع من كلّ تذكرة دخول إلى صالة سينمائية، تُباع في المملكة المغربية.
البُعد نفسه كان حاضراً في تونس، بحكم الدور الأساسيّ لإيديولوجية اليسار في صوغ خطاب السينما التونسية والقضايا التي شغلتها والنشاط الكبير لـ"الجامعة التونسية لنوادي السينما"، بإدارة الطاهر شريعة، في دعم التوعية بأهمية القضية الفلسطينية. تجسّد هذا، بصفةٍ طبيعية، في الأهمية الأساسية التي أولتها "أيام قرطاج السينمائية" لها، حضوراً وتتويجاً، بحكم تموقعها الفريد، الجامع بين البُعدين الأفريقي والعربي.
هذا من دون تناسي مُساهمة المغرب، مركزاً سينمائياً وقنوات تلفزيونية، في إنتاج أعمالٍ مهمّة، تناولت الشأن الفلسطيني، وفاءً لالتزام نور الدين الصايل، بدعم أفلام الجنوب عموماً، والفلسطينية خصوصاً، كرائعة الفلسطيني إيليا سليمان "يد إلهية" (2001)، وفيلم "باب الشمس" (2004) للمصري يسري نصر الله، المُقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للروائي اللبناني إلياس خوري، وجوهرة الفلسطيني رشيد مشهراوي "عيد ميلاد ليلى" (2008).
رغم أنّ الأعمال التي تناولتها كثيمة أساسية قليلة العدد في الفيلموغرافيا المغاربية، حضرت القضية الفلسطينية في أفلام عدّة، باعتبارها مُكوّناً أساسياً للهوية الثقافية، والمنظومة القيمية للشعوب المغاربية. يمكن التمييز، في هذا الحضور بين أفلامٍ يطغى فيها الموضوع وبُعد الخطاب المباشر، المرتكز على شعارات رنّانة، تتناول القضية بشكل لا يُساهم في فهم تعقيدها، ويغيب فيه تقريباً كلّ طموحٍ فني، أو انشغالات جمالية، كما في "القدس باب المغاربة" (2010)، وثائقي للمغربي عبد الله المصباحي الذي يمزج ـ بشكلٍ مرتبك، تعوزه الرؤية الناظمة والترتيب المفضي إلى معنى ـ بين الوثائقي والتخييلي، كمحاولة لجردٍ تاريخي لمُساهمة المغاربة في حفظ هوية القدس، العربية والإسلامية، منذ عهد صلاح الدين الأيوبي إلى العصر الحديث.
هناك أفلامٌ وثائقية، تحضر فيها رؤية نافذة ومثيرة للاهتمام لدى المخرج للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما في "أرضي" (2011) لنبيل عيّوش الذي يتّخذ من مقاربة ذاتية (والده مغربي مسلم ووالدته فرنسية ـ تونسية يهودية) وسيلة للقبض على مأساوية الشرط الفلسطيني، من خلال ربط حوار عن بُعدٍ بين عجائز فلسطينيين، يعيشون في مخيم في لبنان، بعد 60 عاماً على تهجيرهم من أراضيهم، وشبّان إسرائيليين، يكتشفون للمرّة الأولى قصص من كانوا يعيشون على الأرض التي يحتلونها اليوم.
يوضح الفيلم ـ بجمالية متأمّلة وآسرة، رغم شيءٍ من الاستكانة إلى المثالية ـ أنّ جزءاً كبيراً من الحقد العرقي يُغذّيه جهل الطرف الإسرائيلي، وشبابه خصوصاً، بجذور الصراع وأبعاده الإنسانية، بعد عقود من البروباغندا الصهيونية، والتناول الإعلامي المُشبع بالقوالب الاختزالية، والخطاب الذي يُشيطن الآخر.
من جهة أخرى، تحتوي سينما نبيل عيّوش على مَشاهد تُجسّد وجهاً آخر لتعاطي السينما المغربية مع القضية الفلسطينية، يتجلّى بتعبيرها عن مُكوّن أساسي، يساعد في فهم واقع الشخصية المغربية، بمختلف مشاربها. كما يحضر في شخصيتين مختلفتين جذرياً، لكنّهما تفصحان عن سوء الفهم نفسه في العمق: الأولى أصولي إسلامي، متأثّر بالفكر الجهادي الذي يستغلّ فظاعة مَشاهد الجرائم الإسرائيلية، المرتكبة بحقّ الفلسطينيين، لغسل أدمغة الشبان المغاربة، ودفعهم إلى التحوّل إلى قنابل بشرية، كما في "يا خيل الله" (2012). هذا يُعبّر عن وجهة نظر دينية، ساهم المغالون فيها في بلورة وتغذية رؤية عنصرية وغير بنّاءة للصراع، تخلط الصهيونية باليهودية، وتأسر القضية في أفق حرج، لا يساهم في إيجاد حلّ لها. الثانية فتاة ليل، تتلاسن مع سائح من الخليج العربي دفاعاً عن الفلسطينيين، مُفصحةً عن رؤية عاطفية وساذجة (لكنّها صادقة)، تُترجم نظرة مزعجة سائدة لدى قسم آخر من المغاربة، ينظر إلى الفلسطينيّ من زاوية دونية، يطبعها البؤس والإشفاق الأبوي، الحاجِر على الاختيارات.
المخرج التونسي رضا الباهي بحث، بدوره، عن تجاوز قوالب التناول التبسيطية، مُتأثّراً بالنظرة البراغماتية البورقيبية للصراع التي تنادي بضرورة التعايش بين دولتين، وتجاوز إيديولوجية إقصاء الآخر لدى طرفي الصراع، في "السنونو لا تحلق فوق القدس" (1994): صحافي فرنسي، يسافر إلى القدس لإنجاز ريبورتاج عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، في مناخ من التفاؤل، الناجم عن قرب توقيع اتفاق سلام. لكنّه يُفاجأ بقسوة الأوضاع في الميدان وضبابيتها، في ظلّ توالي مواقف الكراهية والتسامح، وتعايش السخاء مع الأنانية. عند عرضه، جَرّ الفيلم على الباهي انتقاداتٍ قاسية، واتّهامات بالتطبيع، تبدو غير مُبرّرة البتّة بمنظور اليوم وحقائقه.
المغربي حسن بنجلون حاول في فيلمه الأخير "من أجل القضية" (2019)، التطرّق إلى القضية، من زاوية المعالجة الكوميدية لعبثية الحدود، من خلال قصّة لقاء بين يهودية من أصل فرنسي وشاب فلسطيني، على خلفية توقهما إلى عبور الحدود المغربية ـ الجزائرية، للمشاركة في حفلٍ موسيقيّ. الفيلم مُثير للاهتمام، نظراً إلى الكيفية التي يضع فيها الشأن الفلسطيني في قلب أحد أكثر الصراعات العربية ـ العربية استعصاءً. لكنّ الفرق مهولٌ بين النوايا والنتائج، في معادلته الفنية والجمالية، ما يعصف بأصالة الفكرة، ويوضح ـ مرة أخرى ـ كيف أنّ غياب رؤية متفرّدة ومقاربة فنية خلاّقة كفيل بإجهاض كلّ مرامي المشروع، مُكرّساً، على العكس، رؤية تبسيطية للشخصية الفلسطينية، وأزمتها الإنسانية.
هناك أفلام وثائقية مهمّة، وإنْ لم تُسجّل رسمياً في الفيلموغرافيا المغاربية، لأنّ مخرجتها تحمل الجنسية الفرنسية، ولأنّ مبادرة إنتاجها غير مغاربية. رغم هذا، تعبّر الأفلام عن رؤية مُخرجة مغربية، هويةً ورغبةً، لتحدّرها من عائلة مغربية يهودية، ما زالت تعيش جزءاً من حياتها في الرباط. لعلّ ازدواجية ثقافتها اليهودية ـ العربية تتيح لها غنى الرؤية، وتعدّد أبعادها.
6 وثائقيات طويلة لسيمون بيتّون، تُعتبر أهمّ مُنجز فيلميّ مغاربيّ يُمكن الركون إليه، لإحاطة شبه شاملة بكلّ جوانب القضية الفلسطينية، التاريخية والثقافية والسياسية. مُقاربة إنسانية، لا تتردّد في التحيّز إلى الحقّ الفلسطيني، وإبراز مدى الحيف الذي يتعرّض له، بعيداً عن التناول الغربي الذي ينتصر غالباً لمُقاربة تدّعي الموضوعية، لكنّها موضوعية زائفة، تُساوي بين ضعف الضحية وجبروت المعتدي، مُتّخذةً من تجاوزات ـ تلجأ إليها الضحية للتعبير عن يأسها من جمود الوضع، وإمعان الاحتلال في هضم الحقوق، وسيلةً للإمعان في عزل صوت الضحية وطمس حقّها في المقاومة.
فيلمان لبيتّون ينتميان إلى البورتريه. فيلمان صادقان ومؤثّران، عن وجهين بارزين من وجوه المقاومة الفلسطينية: الأول مرجعيّ عنوانه "محمود درويش: الأرض تورّث كاللّغة" (1998)، تلتقط فيه الارتباط الوجداني بالأرض، كما يُعبّر عنه شاعر الشرط الفلسطيني الأبرز في قصائده، وتفاصيل حياته اليومية، وكينونته ذاتها. الثاني "المواطن بشارة" (2001)، المتميّز بتفاصيله وقبضه على حيوية الشخصية الاستثنائية للمفكر العربي، عزمي بشارة، الملتزم بمناهضة التفرقة العنصرية التي يعانيها فلسطينيو الـ48، من داخل موقعه حينها في الكنيست الإسرائيلي، من دون أنْ يتخلّى عن الدفاع عن حقوق مواطنيه الفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية، وفي الشتات.
في "جدار" (2004)، تُسجِّل بيتّون مقدار الكلبية والاحتقار اللتين ينطوي عليهما تشييد السلطات الإسرائيلية لجدار الفصل العنصري، بفضل لقطات ثابتة، تَلْتقِط في الزمن الحقيقي المَشهد، قبل وضع لوحات الحائط، الرمادية والبشعة، وأثناء وضعها وبعده، مُوضحةً عبثية عملية الفصل، وفداحة الخسران الذي ينتج عنها على الإنسان والشجر والحيوان، وعلى الطبيعة برمّتها.
الجدير بالتأمّل والانتباه أنّ الفيلم الطويل الوحيد لسيمون بيتّون الذي لا تتطرّق فيه إلى موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو "المهدي بنبركة، المعادلة المغربية" (1998)، حول قضية اختطاف واغتيال الزعيم السياسي المغربي في فرنسا، في غمرة استعداده لعقد مؤتمر للحركات الثورية التحرّرية لدول العالم الثالث، الساعية إلى الانعتاق من الاستبداد ورواسب التبعية للاستعمار. وهو ما يؤكّد، بطريقة أخرى، قوّة الارتباط بين هذا السعي، والتزام القضية الفلسطينية في الهوية الثقافية المغاربية - كما جاء في مقدّمة هذه المقالة.