يُعتبر الملحون من الفنون الغنائية، التي ميّزت بلاد المغرب الأقصى (المغرب حالياً) تاريخياً؛ فنشأته المُبكّرة من خمسة قرون بمنطقة تافيلالت، جعلته يصوغ لنفسه العديد من البحور والأغراض والقواعد والأنظمة، التي تُؤسّس نظامه الشعري. ورغم ظهوره في منطقة تافيلالت، فإنّه لم يظهر بصفة مُكتملة، حتى لحظة انتقاله إلى مدينة مراكش وفاس ومكناس، حيث اكتسب صفاءه الموسيقيّ وصلابته الإبداعية، على أيدي بعض المَشايخ وتلامذتهم، لكنّه سرعان ما خرج من هذه الأمكنة المُغلقة، صوب فضاءات أكثر تحرّراً، على يد بعض التجار والحرفيين داخل مدينة مكناس، إذ أضحى العامل البسيط يتغنّى بأزجاله، ويُحاول أنْ يبتدع انطلاقاً من عذوبة الأزجال الشعرية العامية، وأنْ ينسج إيقاعات خاصّة على أدوات الصناعة التقليدية.
بهذا، كانت هذه المرحلة التاريخيّة مهمّة للتداول بين الناس، إذ أصبح الشعراء يبذلون مجهوداً مُضاعفاً في نسج قصائد بلغة عامية، تليق بفنّ الملحون، تبارى في صناعتها العديد من الشعراء داخل مدن، كـ فاس ومكناس ومراكش، وما زال الباحثون، إلى اليوم، يعثرون على العديد من مخطوطات فنّ الملحون، ويتم تحقيقها ونشرها داخل مجلاّت ودوريات، بعد الانطلاقة الفعلية، التي اختصّ بها عباس الجراري، في إنجاز أوّل أطروحة دكتوراه حول فنّ الملحون عام 1968.
لكنّ ما ميّز غناء الملحون تاريخياً، هو أنّه أضحى من الفنون الراقية، التي تُغنّى في الأعراس والمواسم والحفلات الدينية وداخل زوايا التصوف، فاكتسب داخل هذه الفضاءات، على يد مَشايخ وشعراء ومنشدين وعازفين، أبعاداً صوفيّة وأكثر روحانية، جعلت أغانيه تنهل من معين الدين والذات والعشق والخلوة والطبيعة، وسواها من الموضوعات، التي طرق بابها الشعر العربي منذ صدر الإسلام.
لعل ميزة قصائد غناء الملحون، هي أنّها ظلّت قريبة من وجدان الإنسان المغربي البسيط، إذْ يترك جسده يدخل في غمرة من الوجد الصوفي، حيث تلتقي عذوبة الأشعار وتتماهى مع سحر الآلة وإيقاعها المُتكرّر والشجيّ. ورغم المكانة الاجتماعية التي حازها فنّ الملحون داخل العائلات المغربيّة، بوصفه فنّاً موسيقيّاً تراثياً غنيّاً، قام على أسس تاريخيّة وفلسفة يومية، بقي الملحون، لقرون طويلة، حكراً على الرجال؛ يُؤدّون أغانيه بشكل جماعي يستند إلى أدوات تقليدية كـ"العود" و"الطعريجة" و"الطبل" و"الرباب"، وهي أدوات تُحدث إيقاعاً موسيقيّاً رتيباً، يجعل الجسد يدخل في دوامة من العشق والتماهي.
المثير في سيرة الملحون الغنائية، أنّه صمد لقرون طويلة. واستطاع، رغم مُنطلقاته المُتواضعة، تأليفاً وعزفاً وأداءً، أنْ يتكيّف مع كلّ التحديات السياسية والاجتماعية، التي رافقت قيام ونشأة بعض السلاطين داخل بلاد المغرب الأقصى، ويتنزّل منزلة هامّة ورفيعة في مدونة الغناء العربي، قديماً وحديثاً، فقد لحقته نهاية ستينيات القرن المنصرم عدّة تغيّرات فنيّة وجماليّة، جعلت منه أفقاً غنائياً جديداً وأكثر حداثة، حيث ستعمل المرأة المغربيّة ولأوّل مرّة في تاريخه على اقتحام هذا الفن، وأداء أغانيه، داخل حفلات رسمية وسهرات فنيّة، بعدما ظلّت المرأة تُغنيه بشكل متردّد، اقتصر على بعض البيوت العائلية داخل مدن عتيقة. كانت المُطربة المغربيّة، ثريا الحضراوي (1957)، أوّل مغنية تُؤدّي قصائد غناء الملحون بشكل منفرد، بعد أنْ كان تاريخياً يُغنّى بشكل جماعي من طرف الرجال، وداخل أفق ضيّق يطغى عليه البعد الإنشادي داخل مآتم وحفلات دينية وحلقات الذكر.
بدأت حداثة الملحون مع دخول المرأة، فهي من حرّرته من جموده وتقليديته وجعلته يرتاد أفقاً عالمياً منفتحاً على التجريب، فقد أسست تجربة ثريا الحضراوي، لأنْ يغدو الملحون فنّاً أكثر اتساعاً، فتجربتها في المغرب مرادفة للتجديد الذي طبع هذا اللون الغنائي التراثي، لأنّها جعلته يخرج من الأفق المغربي الضيّق، صوب ألوان موسيقية أدتها فرق موسيقيّة غربية، كعازف البيانو الروسي، سيمون ناباتوف.
لكنّ تجربة الملحون لم تقف عند الحضراوي، فقد شرّع اهتمام بعض المهرجانات والمؤسّسات الغربية، من مراكز ومعاهد فرنسية وبلجيكية وهولندية وألمانية، الطريق للأجيال الغنائية المغربيّة الجديدة (ماجدة اليحياوي، نبيلة معن)، التي أصبحت تهتم بغناء الملحون، إلى جانب أغان تراثية أخرى، كالموشحات والطرب الأندلسي، وهي ألوانٌ تراثية باتت تعيش ضرباً من الحصار الغنائي، أمام ذيوع وتفاقم الأغنية الترفيهية التجارية على حساب أغاني فنّ الملحون، لأنّ المؤسّسة الرسمية بدت في الآونة الأخيرة، وكأنّها تتعمّد تهميش هذا اللون الغنائي التراثي، عن طريق تشجيع الأغنية المغربيّة المعاصرة القائمة على الترفيه والابتذال، وإقامة نوع من الازدواجية، بين أغاني الملحون التي يُحبّها المغاربة، وبين أغان بائسة تُفرض على الناس داخل مدنهم؛ إذْ رغم وجود بعض المهرجانات في المغرب، التي تُعنى بالموسيقى الروحية وتاريخها وتراثها، إلا أنّها تبقى أكثر رسمية، ولا تستجيب لمتطلبات فنّ الملحون، كما نراه ونسمعه داخل مدن غربية، لأنّه هناك يكتسب حياة أخرى عن طريق تموقعه داخل غناء الآخر وتراثه الموسيقي الزاخر بقوالب موسيقيّة حيّة، وبآلات صوتية إلكترونية، بإمكانها أنْ تُجدّد غناء الملحون، وتمنحه إيقاعاً وجودياً مختلفاً أكثر معاصرة، مقارنة بما يظهر عليه من صورة تقليدية مرتبكة على مستوى الفرقة ولباسها واختياراتها الغنائية وأنماطها الموسيقيّة.