ما زال فيديو نشره "يوتيوبر" جزائري حمل عنوان "القهويين" (الدخيل على المدينة) يثير جدلاً واسعاً على منصات التواصل الاجتماعي في البلاد، ونقاشاً حول مضمونه الذي يراه البعض نقداً اجتماعياً صريحاً لسلوك ومشاهدات من الواقع، فيما يعتبره آخرون عنصرياً يبث الكراهية بين طبقات المجتمع.
في فيديو "القهويين"، يحاول صانع المحتوى أنس تينا الإشارة إلى سلوك بعض الشّباب في البحر وطريقتهم في التعبير عن الفرح والترويح عن النّفس التي يعتبرها مسيئة للفضاء العمومي، خاصة في فصل الصيف. وتطرق الفيديو (مدته 3 دقائق و44 ثانية) إلى طريقة استجمام هؤلاء الشّباب في البحر ورميهم القاذورات على الشّاطئ من بقايا الطعام والمشروبات، ومعاكستهم النساء، وقيامهم بتصرّفات لا تليق بتجمّعات الأسر، إضافة إلى إطلاق العِنان لموسيقى صاخبة وكلام فاحش. وأثناء عودتهم للديار، يركنون السيارات في الطريق العام ويرقصون على أنغام صاخبة، ويعطلون حركة السير غير مبالين بظروف السّائقين ولا بقانون المرور وآداب الطريق.
أنس تينا تعوّد على تقديم الواقع الجزائري بالسخرية واشتهر بفيديو "راني زعفان" (أنا غاضب)، وهو فيديو سياسي بقالب سخرية، لكنه هذه المرة أثار غضب الناشطين في الشبكات الاجتماعية، وخاصة "فيسبوك"، رغم أنه ختم الفيديو الأخير بالقول إن هذه التصرفات غير محصورة بأشخاص من لون بشرة معين أو بالقادمين من خارج المدينة.
أحياناً يكون النقد الصادم ضرورة لمحاربة بعض التصرفات التي تخرج عن الوعي الجمعي والعرف الاجتماعي في الجزائر، إذ يعتبر البعض أن ما جاء في محتوى الفيديو ما هو إلا انعكاس حقيقي لما يعيشه الجزائريون، وليست له علاقة بالعنصرية أو لون البشرة، بل إن هذه التصرفات ليست مقتصرة فقط على شاطئ البحر، مثل ما جاءت في محاكاة صاحب المحتوى، بل هي موجودة في فضاءات أخرى مثل الشارع والأسواق والأحياء الشعبية.
ويرى الصحافي نصر الدين مهداوي أن مضمون الفيديو حقيقي، وأن هذه هي وظيفة المؤثر أو صانع المحتوى الذي يتحمل مسؤولية اجتماعية لدفع عجلة التنمية الاجتماعية نحو الرقي والتطور من دون المساس بأعراف وعادات المجتمع الأصيلة. ويقول مهداوي لـ"العربي الجديد" إن "المؤثر الحقيقي يسهم في محاربة بعض الذهنيات أو السلوكيات والتصرفات والأمراض المستعصية في البيئة الاجتماعية".
وعلى الرّغم من أن الفيديو يحمل إدانة صريحة للتصرفات المستهجنة من الكثيرين والخادشة للحياء، إلا أنه أخذ تفسيرات أخرى من خلال مصطلح "القهويين" الذي يحمل دلالات عنصرية في الجزائر. وانتشرت صفة "القهوي" في الآونة الأخيرة، إذ يذكر أستاذ الهندسة المدنية في جامعة الجلفة، جنوبي العاصمة الجزائرية، فريد قحام، أن "القهوي" ابتكره البعض لتعميق الهوة بين الجزائريين خاصة خلال فترة المسيرات الشعبية منذ انطلاق الحراك الشعبي، ما جعله ينتقل شفهياً وعبر الشبكات الاجتماعية بين سكان المدن وأطرافها أو هوامشها وبين الولايات الداخلية والحواضر الكبرى. ويضيف قحام لـ"العربي الجديد": "نحن أمام حقيقة مؤلمة وصادمة، إذ كثيراً ما تستخدم مصطلحات تسيء لكل من هو قادم من المدن الداخلية نحو عواصم الولايات الكبرى كوهران وعنابة وقسنطينة والجزائر العاصمة، إذ يوصف بالعروبي أو الكافي (تعني غير المتحضر)، والقبالة أي سكان البدو الرحل، وصحاب الطاكسي الصفراء أي القادمين في سيارات الأجرة الصفراء من الداخل إلى العاصمة، وغيرها من الصفات المؤذية، وغالباً ما تلصق بهم التصرفات غير المدنية والسيئة".
ووفق قحام، يرسم هذا المحتوى السمعي البصري على مواقع التواصل الاجتماعي أبعاداً سوسيو-ثقافية تستهدف تغيير بعض السّلوكيات، أو استخدام محاكاة الواقع للتّأثير على فئة معينة من المجتمع الجزائري وطريقة تعامله مع فضاء عمومي ملك لكلّ المواطنين كالشاطئ والطريق العام. أما التصرفات التي تطرق إليها الفيديو "فهي موجودة في مجتمعنا، ولكنّها تتغذّى على ما يسمّى بالوصم الاجتماعي، أو إلصاق صفة أو ميزة أو هوية تعبّر عن دونية مرتبطة بفئة معينة، فالفيديو الذي أحدث جدلاً واسعاً في الأوساط الاجتماعية ألصق السلوك السيئ بأصحاب البشرة السمراء (القهويين من لون القهوة)"، بحسب المتحدث.
وترى أستاذة علم الاجتماع من جامعة قسنطينة، شرقي الجزائر، راضية بن دريدي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن هذه الصفة "تقوم على تركيبة تستند إلى نحن وهم، إذ تلصق التصرفات المشينة بهم، وهذا له معنى ودلالات لازدرائهم أو تحقيرهم، ما يعرضهم إلى الرفض المجتمعي والشعور بالعار والنقص والدونية". وتشير إلى أن "هناك صِفات تحقيرية منتشِرة في المجتمع الجزائري تعمل على التّفرقة والعنصرية لا يمكن إغفالها، ولكن في مقابِل ذلك، وجبت العودة إلى أهداف وسائل الإعلام الجماهيرية كمحامِل ناقِلة لمحتويات اجتماعية قد تزيد من نار الفِتنة"، مُشيرة إلى أنّ محاربة هذه السُّلوكات يمكن العمل عليها بطرق أكثر احترافية مع مُراعاة مشاعر الكثيرين.
الملفِت أن مسألة صِناعة المحتوى في وسائل التّواصل الاجتماعي باتت تطرح الكثير من الجَدل في الجزائر لصعوبة التحكُّم في الوسائط الاجتماعية، وموضوعاً يبحث فيه العديد من طلبة الإعلام والاتصال في الكليات والمعاهد الجامعية. إذ يطالب الباحثون بضرورة إدراج مادة جديدة في سلك الدراسات العليا (الماستر والدكتوراه) تتعلّق بمادة تطبيقية عن "صناعة المحتوى الرّقمي"، تهدف إلى تفكيك معناه وأهدافه والأبعاد التي يرسُمها، واستِشراف رُدود الفِعل التي يخلفها أي محتوى رقمي، فضلاً عن المعايير التي تتحكم فيه، خصوصاً مع انفلات الوسائل التّكنولوجية من أعين الرقابة مع أهمية وضع أجندة أخلاقية لهذه الوسائِط.