فيروز كراوية... تأمّلات في الغناء والموسيقى

22 سبتمبر 2024
ترى كراوية أن صنعة التلحين افتقدت إلى الأساتذة (من الفنانة)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **مسيرة فنية متعددة الأبعاد**: فيروز كراوية، المطربة المصرية، تميزت بالغناء المختلف، البحث والكتابة النقدية، والدراسات العليا في الأنثروبولوجيا الثقافية، بعد تركها المجال الطبي.

- **رؤية نقدية لأزمة الغناء المعاصر**: ترى كراوية أن أزمة الغناء تتكرر منذ عصر "البوب العربي"، مشيرة إلى التكرار وضعف التلحين بسبب انقطاع التواصل بين الأجيال الفنية.

- **إسهامات في الموسيقى والثقافة**: قدمت 150 أغنية، أصدرت ألبوم "بره مني" عام 2012، وحصلت على ماجستير في الأنثروبولوجيا الثقافية، وتعد أطروحتها للدكتوراه في جامعة السوربون.

تمثّل المطربة المصرية فيروز كراوية حالةً نادرةً في المشهد الغنائي المعاصر، بعدما استطاعت أن تسير في ثلاثة خطوط متوازية؛ أولها الغناء، الذي تقدم فيه تجربة تحمل قدراً واضحاً من الاختلاف عن السائد والمتكرّر. وثانيها البحث والكتابة النقدية، وهو ميدان قدّمت فيه أوراق اعتمادها مبكراً بعدد من الكتب والدراسات الرصينة. وثالثها الدراسات العليا في الأنثروبولوجيا الثقافية.

لم تستطع كراوية أن تسير في هذه الخطوط إلّا بعد أن امتلكت جرأة مبكرة، تجلت في قرارها بإنهاء علاقتها بالمجال الطبي بعد عامين فقط من تخرجها في كلية طب قصر العيني بالقاهرة. المطرب الباحث، أو المغني الكاتب، لا يشكل حالة معتادة في الحياة الفنية المصرية والعربية. تتعامل كراوية مع سؤال الموسيقى نقدياً، فلا تبادر بالإجابة إلّا بعد اختبار مشروعية السؤال، ومدى مطابقته للواقع.

حين تُسأل عن "أسباب أزمة الغناء المعاصر" يكون همها الأول هو التأكد من وجود هذه الأزمة أصلاً، قبل التورط في سرد أسبابها، أو ربما انشغلت بتتبع تكرار السؤال عن تلك الأزمة عبر 100 عام مضت، كان شكل الغناء يتغير فيها كلّ عشر سنوات أو عشرين سنة، من خلال أبطال يرون أن الواقع "مأزوم" أو استنفد أغراضه لأسباب فنية أو اجتماعية.

وفي اللقاء مع "العربي الجديد"، لا تقدم كراوية رؤية نظرية مستمدة من الكتب أو الاطلاع على الوثائق أو استماع التسجيلات فقط، وإنما تقدم إجابات من واقع الخبرة التي حصلتها بالنزول إلى "السوق الغنائي" ومكابدة إشكالات الغناء والتلحين والتوزيع والإنتاج.

ترى كراوية أن "أزمة الغناء" شكّلت دائماً سؤالاً غير منتج، لا يغير كثيراً في الواقع الفني، لكن هذا لا ينفي -في رأيها- أن هناك موجات غنائية استُهلكت، بعد أن أدّت دوراً لفترة طالت أم قصرت. تشير إلى أن "حديث الأزمة" يتكرّر منذ دخولنا في ما يسمى عصر "البوب العربي"، المتمثل في ديمقراطية الفنون، بمعنى إتاحتها للجمهور الواسع وسهولة الوصول إليها.

تحدد فيروز كراوية ما تعنيه بـ"البوب" في هذا السياق: "نعني بالبوب الإنتاج المتداول على نطاق واسع، مثل "المهرجانات" و"الراب" أو أغاني عمرو دياب، وهو إنتاج فني لا يتطلب استهلاكه أي جهد". وبهذا المفهوم، فإن محمد عبد الوهاب -في رأي كراوية- هو مؤسس "البوب العربي"، لأنه أول من سعى إلى "التبسيط الغنائي"، وتقديم أعمال سهلة تتناسب مع عصر السينما ثم الراديو.

أنشأت هذه المتغيرات عصراً كاملاً من الفنون، التي ظلت تتطور، أو بالأحرى تتعرض لمزيد من التبسيط وصولاً إلى المشهد الغنائي الحالي، الذي يمكن أن نعتبر نمط البوب المتكرر أبرز معالمه، مع الاهتمام بالبحث عن الأشكال "البلدية" أو استخدام إيقاع المقسوم. ولو نظرنا إلى الإنتاج المصري خلال شهر أو خلال سنة، لوجدنا أن قرابة 85% منه يأتي على إيقاع المقسوم أو المصمودي الصغير، وكأنه ركن من أركان خلطة سحرية، تأتي نتائجها سريعاً مع الجمهور. 

تجزم كراوية بأنّ الراب والمهرجانات شكلت تحدياً كبيراً لهذا النمط التقليدي من الغناء وفرضت عليه إعادة التفكير. ما تطرحه الفنانة حول الغناء المعاصر، والأشكال المختلفة لـ"البوب العربي" استتبع سؤالاً عن الشكوى من "التكرار" التي تتواتر بين متابعي الحالة الغنائية الحالية.

لا تنكر فيروز كراوية أصل المشكلة، بل تعتبر أنّ "التكرار" يمثّل أزمة لها أبعادها حتى في الموسيقى العالمية، وترى أن من الضروري الانتباه إلى حقيقة يصرّ كثيرون على إغماض الأعين عنها، وهي أن السابقين جرّبوا كل الأفكار، وأنتجوا كل الأشكال، وأن تجاربهم وإنتاجهم قد جرى توثيقها بالتسجيل، حتى صار من الصعب أن نتوقف أمام عمل تلحيني محلي أو حتى عالمي من دون أن نجد أثر السابقين فيه.

لا تشير كراوية إلى هذه الحقيقة تبريراً للضعف التلحيني، وترى أن صنعة التلحين افتقدت إلى الأساتذة، بعد أن انقطعت عملية التسليم والتسلم فيها. وتمثيلاً، كان محمد الموجي وكمال الطويل، آخر أجيال الأساتذة الذين سلموا راية لجيل تال. وبعدهم جاء فاروق وصلاح الشرنوبي، ورياض الهمشري، وسامي الحفناوي. وهؤلاء ليس لهم تلاميذ.

تضيف فيروز إلى أسباب ضعف الألحان انتهاء ما يعرف بـ"المجتمع الموسيقي". فلم تعد هناك لقاءات بين أهل الفن، ولا نقاشات مباشرة حول الإنتاج الجديد. لم يعد هناك أحد يقابل أحداً في معهد الموسيقى، ولا في مقاهي شارع محمد علي. والآن، فإنّ الجزء الأكبر من عملية الإنتاج يُنجَز من دون لقاء بين أطراف العمل، ولم يبق اليوم من صنعة التلحين إلا آثار باهتة.

ترى فيروز كراوية أن التراجع الكبير في فن التلحين يمثل الخسارة الأكبر بين كل تراجعاتنا الفنية، لأنّ التلحين فن يخص منطقتنا في المقام الأول، واهتمامنا بـ"الميلودية" كان دائماً أكبر من الغرب. تضيف: "منذ الثمانينيات، أصبح هناك استثقال لمسألة الانتقال المقامي، مراعاة للمستمع. كما توقف استخدام مقامات كثيرة تعطي انطباعاً بأنها قديمة، فلا أحد اليوم يقترب من السيكا أو الراست. الآن لا تعرف الألحان إلا الكرد بالدرجة الأولى، ثم النهاوند، ثم البياتي".

تتابع: "أصبح الإنتاج الغنائي متماهياً مع حالة الخوف من ملل المستمع، فتُرك أي شيء يحتاج إلى متطلبات في الاستماع، ليتقلص اللحن، ويحل محله التوزيع الموسيقي، القادر على التعامل مع "ميلودي" مكون من أربع جمل لينتج منهم أربع دقائق كاملة، من خلال التوزيع الذي يسمح بتعددية الإيقاعات، واللعب بالمؤثرات الصوتية واللوازم الموسيقية والثيمات. ومنذ أكثر من 20 سنة ونحن نعيش عصر الموزع لا الملحن. هذه هي الخسارة الحقيقية للموسيقى العربية". 

وفي مقارنة توضيحية، ترى كراوية أن خصوصية الموسيقى الغربية تمثلت دوماً في القدرة على تطوير جمل لحنية قصيرة، والانتقال بثيمات صغيرة عبر الأوركسترا. بخلاف موسيقانا التي كانت تنطلق من ثراء لحني بدرجة كبيرة. فنحن نشبع من "الميلودي" مقامياً وإيقاعياً، وهذا كان سبب طرح سؤال دائم عن مدى الحاجة إلى التوزيع الموسيقي.

حين صعدت "المهرجانات" بقوة إلى الحياة الفنية، حاول بعض الكتاب تفسير هذا الصعود بأنه نجاح في مواجهة قديمة بين "الهامش" و"المركز"، فالطبقات الفقيرة والشعبية أنتجت فنها، ثم استطاعت أن تفرضه على طبقات اجتماعية أعلى وأرفع في مستويات الثقافة والتعليم. ترفض كراوية فكرة "الهامش والمركز"، وترى أنها لا تصلح لتفسير انتشار "المهرجانات".

تضرب مثلاً بأحمد عدوية الذي انتشر عبر حفلاته في فندق ميناهاوس الفخم. وأيضاً، فإن عبد الوهاب المتهم بإنتاج ألحان الصالونات تذهب أعماله إلى الحارات الشعبية ويستمع الملايين إليها. وأم كلثوم تعتبر أكبر مطربة شعبية، سواء بالانتشار، أو ببعض طرائق أدائها. المهرجانات -في رأي فيروز- صوت لبيئتها، لكنها نفذت إلى الآخرين، لأنها من صور البوب، أي إن التكرارية والإلحاح، فرضتها على دوائر مستقبلين مختلفين عن دوائر الإنتاج.

الحديث عن الموسيقى الشعبية كان فرصة لاستطلاع رأي فيروز كراوية حول أسباب اهتمام فئات واسعة من الشباب بألحان بليغ حمدي. أجابت: "بليغ مثَّل جسراً بين عالمين أو بين جيلين: بين جيل الأغنية الحديثة الأول: القصبجي وعبد الوهاب وزكريا والسنباطي، وبين من جاؤوا بعدهم. والسر في بليغ هو اهتمامه بتلحين الثيمات وتكرارها، والتركيز على السينيو، أي جملة مميزة وسهلة ومتكررة ويمكن استعادتها من الشخص العادي بل غناؤها بسهولة. الثيمة القوية الملحة، بغض النظر عن متانة البناء اللحني أو ضعفه. كما أنه من أهم من مارسوا عملية تبسيط التبسيط، وهي عملية لها ميزاتها في الانتشار الجماهيري، وأيضاً لها عيوبها عند من يهتم ببنية اللحن وعلاقة أجزاء الأغنية بعضها ببعض. بليغ بالنسبة لمن بعده يعد أباً، لكنه نسبة إلى من قبله مجرد طفل".

تمنح فيروز كراوية في كتبها ومقالاتها ولقاءاتها الإعلامية قدراً معتبراً لدور السياق الاجتماعي في تطور الغناء، سلباً أو إيجاباً. في رأيها، يحمل الغناء بطبيعته وظيفة اجتماعية، ومن المحتم أن يكون اجتماعياً، لأنه أقصر أشكال الفنون زمناً، وأسهلها في التداول وأسرعها، باعتبار قابليته لأن يكون نشاطاً جانبياً مع عمل آخر.

السياق الاجتماعي يلعب دوراً كبيراً في إنتاج الغناء، بالعلاقات، والتفاعل. فالغناء صناعة تتداخل فيها عناصر مختلفة، سوق الغناء لا يصنعه المغنون، بل تصنعه جهات الإنتاج، وتتحكم فيه. لم يعد اختيار المطربين والمطربات قاصراً على جمال الصوت وحسن الأداء. هناك عناصر أخرى: الحضور على المسرح، وتفاعل الجمهور، والأداء الحركي.

تضرب فيروز كراوية مثلاً توضيحياً لأثر السياق الاجتماعي على الغناء، بمسألة التلحين النسائي، فالمجتمع قبِل المرأة مغنية لا ملحنة، وقبِلها مدرسة موسيقى، لا صائغة ألحان، لأن الغناء النسائي يمثل احتياجاً فنياً ومجتمعياً، وليس التلحين كذلك، إذ يمكن الاكتفاء فيه بالرجال. التلحين يحتاج إلى اختلاط ومجتمع وعرض على الزملاء وشيوخ الفن، والنشاط كله ليلي يلزمه السهر، والحضور في أوساط الفن، وصولاً إلى قبول الألحان من المغنين. وكل هذا سيكون بلا داع في نظر المجتمع.

خلال رحلتها الفنية، قدمت فيروز كراوية 150 أغنية، وصدر أول ألبوم كامل لها عام 2012 بعنوان "بره مني"، وتضمن أغنيات مختلفة المقامات والإيقاعات، كما تضمن أغنيات ذات طابع غربي. تقول: "منذ أول يوم اهتممت بالتنوع المقامي والإيقاعي والأشكال المختلفة. رغم تحذير بعض المحيطين من ضرر هذا الطريق تسويقياً، لأن الجمهور يفضل الفنان المعروف بلون معين. وقبل إصدار الألبوم بسنوات، حرصت على أن تكون أول حفلاتي أغنيات جديدة كلها كتبت ولحنت خصيصاً لي، ولم تكن الاستعادات الغنائية ضمن اهتمامي".

أصدرت فيروز كراوية أخيراً أغنية من تراث السمسمية البورسعيدية بعنوان "نوح الحمام"، كما أصدرت أغنية "الحو ماشي" على نمط الطقاطيق القديمة، وهي أغنية لا تستعيد فيها روح التراث فقط، ولكن أيضاً تستعيد أنماط البروفات القديمة، المتمثلة في المعايشة، بين المغني والفرقة.

حصلت فيروز كراوية على درجة الماجستير في الأنثروبولوجيا الثقافية من الجامعة الأميركية في القاهرة عام 2009، كما أدارت مجموعة أبحاث في مجال السياسات الثقافية والموسيقى العربية المعاصرة، وتعد حالياً أطروحتها للدكتوراه في مجال الدراسات الثقافية بجامعة السوربون الباريسية.

وكتاب "كل ده كان ليه" أحدث إنتاجها المطبوع، وقدّمت فيه ما اعتبرته سردية نقدية عن الأغنية المصرية ومفهوم الصدارة وأسبابها، من خلال تتبع مسيرة الغناء في قرن كامل، بدرجة كبيرة من الجدية والانتباه، وقدرة لافتة على صياغة العبارة النقدية، كأنها تغني، بصوتها وبقلمها.

المساهمون