فيسبوك: خرابٌ فظيعٌ في حرب إبادة

09 أكتوبر 2024
حرب إسرائيلية على لبنان: عنف فيسبوك يكاد يكون أخطر منها (حسن فنيش/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يشهد فيسبوك اللبناني فوضى وعنفًا لفظيًا متزايدًا منذ "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023، وتفاقم الوضع مع الحرب الإسرائيلية على لبنان في سبتمبر 2024، مما أدى إلى غياب الالتزام بالأخلاقيات.
- رغم الأجواء المشحونة، تظهر بعض الكتابات النادرة التي تعكس مشاعر القهر والخيبة وتقدم رؤى ثقافية عميقة، مما يساهم في إثراء النقاشات بشكل بناء.
- يعكس فيسبوك أسوأ ما في الأفراد والجماعات من وعي وتفكير، مما يبرز التحديات في التعامل مع هذا الفضاء المفتوح، كما أشار أمبرتو إيكو.

فيسبوك عالمٌ مجنون. منذ "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، يغرق فيسبوك اللبناني في جنون، يزداد عنفاً لفظياً يوماً تلو آخر، ويشتدّ عنفه مع اندلاع حرب إسرائيلية جديدة على لبنان (23 سبتمبر/أيلول 2024). جنون أناسٍ غير آبهين بشيءٍ أو بأحدٍ. ففي فيسبوك، لا قيود ولا مُحاسَبة، بل تفلّتٌ من كلّ أخلاقيّةٍ، يُفترض بمن يرغب في قول رأي أو مناقشة غيره أنْ يتحلّى بشيءٍ، ولو قليل، منها.

بهذا، يُصبح فيسبوك مشهداً بصرياً، غير مُقترب من السينما، لكنّه مفتوح على لقطاتٍ متتالية تبدو كأنّها فيلم باهت، يمتلئ بأكشن غير مُحبَّبٍ، وغير صالحٍ لكتابةٍ نقدية. مع فيسبوك، كلّ شيءٍ مُباحٌ، والاستثناءات قليلة. مع فيسبوك، تغيب الصورة/المشهد لصالح خرابٍ تُظهره مفرداتٌ وتحليلات، تقول إنّ الغالبية الساحقة من القائلين/القائلات بها تدّعي علماً ومعرفةً، وإنْ يكن هناك من يملك علماً ومعرفة، يفقِدُ لباقة التعبير. الصورة/المشهد اللذان يكشفهما فيسبوك اللبناني عابقان بفراغ وتشنّج وعصبيّة ومُشاكسة، تبلغ حدّاً يستحيل احتماله.

لكنّ فيسبوك نفسه يُتيح أيضاً مساحةً أجمل وأهدأ، مع كتاباتٍ نادرةٍ تُفيدُ قولاً وأشرطةً وتسجيلات. فرغم حرب الإبادة في قطاع غزّة، ثم في الضفّة الغربية، والآن في لبنان، هناك من يلتزم جملةً متماسكة، لغةً وبوحاً وانعكاساً شفّافاً وجميلاً لما يعتمل في ذاتٍ من قهرٍ وخيبةٍ ووجعٍ، ومن رؤيةٍ، يُمكن لمهتمّ/مهتمّة الاستفادة منها. القهر والخيبة والوجع طاغيةٌ كلّها، ومؤثّرةٌ بصُورها المكتوبة، وهذا نادرٌ. والرؤية منبثقةٌ من فعل ثقافي يُمارَس يومياً، وغير مُدَّعيةٍ علماً ومعرفة، لامتلاكها البديع علماً ومعرفةً، وبراعةً في ترجمة هذين العلم والمعرفة بما يليق بقول رأي ومناقشة آخر. وهذا نادرٌ أيضاً.

أحاول تعاملاً مع فيسبوك باعتباره شريطاً يقترب من السينمائيّ، أو يكتفي بأنْ يكون بصرياً. أحاول نقداً لما أشاهده قراءةً، ولما أقرؤه من نصوص تتحوّل، أمام عينيّ، إلى شريطٍ يعكس ركاكة وعي فردي/جماعي، وانهياراً في تفكيرٍ وتحليلٍ، وألماً إزاء ما يُكتَب ويُقال. شريطٌ يُراد له أنْ يوثِّق حالة ومرحلة، فإذا به يحتوي على أسوأ ما في أفرادٍ/جماعات، بدلاً من أنْ يُخرج أجمل ما في أفرادٍ/جماعات من وعي وعلمٍ ومعرفة. كثيرون/كثيرات يملكون وعياً وعلماً ومعرفة، لكنّ الطاغي في نفوسهم وتفكيرهم يُخرِّب ما يمتلكون، ويكشف بشاعةً يستحيل معها، بعد انتهاء الحاصل، بناء اجتماعٍ جديدٍ.

إنْ تُخرج الثورات أجمل ما في الناس، كما أسوأ ما فيهم (كما يُقال)، فإنّ فيسبوك، في زمن حربٍ إسرائيلية جديدة على فلسطين ولبنان، يفعل هذا أيضاً، لكنّه يكشف أنّ الأسوأ أكثر طغياناً من الأجمل، وأنّ الأجمل أعجز من أنْ يُثير الأفضل والأعمق. فيسبوك (يُخبرني أصدقاء/صديقات أنّ وسائل أخرى غير فيسبوك تضجّ بعنفٍ لفظيّ وجنون عارمٍ أكثر بكثير منه، وأنا غير مالكٍ أي وسيلةٍ أخرى) يُبرز قُبحاً، يحسّ به البعض في لقاءات واقعية، وإنْ بشكلٍ أخفّ.

هذا يُذكّر بقولٍ للإيطاليّ أمبرتو إيكو (1932 ـ 2016): "وسائل التواصل الاجتماعي تمنح حَقّ الكلام إلى جحافل من الحمقى الذين يتكلّمون سابقاً في الحانات فقط، من دون أنْ يسبّبوا أيَّ ضرر للمجتمع، إذْ يتمّ إسكاتهم فوراً. اليوم، لديهم حَقّ التكلّم مثل الفائز بجائزة نوبل". و"الأحمق" الفيسبوكي اللبناني ربما يمتلك علماً ومعرفةً، لكنّ بشاعته العميقة في ذاته تُعرّي خرابه الفظيع.

تُرى، إنْ يقرأ إيكو فيسبوك ـ لبنان حالياً، فما الذي سيقوله؟ غالب الظنّ أنّ الحاصل فيه أخطر من كلّ إمكانية تفكيرٍ في قولٍ يصفه فعلياً.

المساهمون