استمع إلى الملخص
- **"3350 كلم" (2023) لسارة قنطار**: يستعرض الفيلم العلاقة بين المخرجة ووالدها في دمشق، معبراً عن ثنائية الهجرة والبقاء والانهيار الاجتماعي والاقتصادي في سوريا.
- **التقاطع بين الفيلمين**: كلا الفيلمين يعكسان الانفصال والخراب في سوريا، موثقين ذاكرة وتاريخ وراهن الفرد والجماعة وتأثير الحرب والانهيار الاقتصادي والثقافي.
"سينما الدنيا" (2023، 15 دقيقة) وثائقيّ قصير لعمرو علي، يعكس راهناً مُحزناً، في بلدٍ (سورية) يعيش حرباً يشنّها نظامٌ حاكم ضد شعب وأرض وتاريخ، ردّاً على انتفاضةٍ سلميّة (15 مارس/آذار 2011). الراهن المقصود غير مرتبطٍ بتلك الحرب، وإفرازاتها وتأثيراتها في الحياتي اليومي، بل بأساسيّ آخر في الحياتي اليومي أيضاً، يعاني أزمةً اقتصادية وعمرانية وفنية وثقافية، قبل أعوامٍ كثيرة على بدء تلك الانتفاضة السلميّة المغدورة: صالات السينما، مختزلة بصالة "سينما الدنيا".
لكنّ حرب النظام الأسديّ ضد شعبٍ وأرضٍ وتاريخ تحضر، مواربة، في وثائقيّ قصير آخر، بعنوان "3350 كلم" (2023) لسارة قنطار، التي تستعين بتسجيلاتٍ سمعية ـ بصرية مع والدها كريم، الباقي في دمشق (مُقيمةٌ هي في باريس منذ عام 2016)، كي تُنجز فيلماً يختبر توظيف مادة كهذه في أكثر من مجال: سرد علاقة ابنةٍ بوالدها، ثنائية الهجرة ـ البقاء، راهن بلدٍ منهار حياتياً واجتماعياً واقتصادياً، كيفية توظيف وسائل تواصل عدّة في فيلمٍ، يعكس شيئاً من انفعال مخرجة (مواليد 1966) إزاء ماضٍ وارتباطٍ بمدينة وأب، وشيئاً آخر من معنى البقاء في حربٍ غير منتهية.
الحرب الأسدية الحالية في الداخل السوري سببٌ أساسيّ من أسباب تردّي الأحوال برمّتها. لكنّ أزمة الصالات السينمائية (رغم اختزال الصالات بواحدة فقط) سابقةٌ عليها، لانعدام كلّ اهتمامٍ بالقديم، ترميماً كلّياً، مع أنّ صالات أخرى قليلة تُعتَبر حديثةً، تحضر في المشهد منذ أعوامٍ قليلة سابقة على "انتفاضة 15 مارس"، وتحاول إيجاد مساحة مريحة للمُشاهدة في أمكنة مخصّصة بالمُشاهدة. "سينما الدنيا" شهادة رثاء ماضٍ عريق، في مدينة (دمشق) عريقة، لها مزاجها وثقافتها وسلوكها وعيشها، قبل أنْ تبلغ حالة متردّية للغاية. شهادة تروي وقائع وتنسج حكايةً، مع انفعالٍ متأتٍ من قسوة راهن واندثار بهاء.
في بعض هذا شيءٌ يحضر في "3350 كلم": انفعال مبطّن في كلامٍ يقوله كريم، وفي صُور تصنعها سارة في متن لقطاتٍ، توحي (اللقطات) أنّ الأشرطة المُصوّرة باهتةٌ وحدها، بينما البهتان سمة عصرٍ غارقٍ في عنفٍ وقسوة، غير ظاهِرَين مباشرة. فالتساؤلات المطروحة ضمناً تشي بعنف حالة وواقع، وقسوة انفصالٍ وقهر. والعنف والقسوة يتسلّلان في كلامٍ يُقال عن صالة معتمة، والعتمة هنا تقول فراغاً وخيبةً، أو انحلالاً في معنى الصالة وطقسها ومفرداتها وجمالها.
تعريفٌ بـ"3350 كلم" يقول إنّ انفصالاً يحدث بين الأب وابنته منذ سبعة أعوام، والمسافة بينهما تبلغ 3350 كيلومتراً: "يعيش الأب في سورية، والابنة في المنفى (باريس). كلّ ما تبقى لهما التحدّث عبر الإنترنت. تُسجّل الابنة المحادثات". هذا كافٍ لتحديد نواة نصّ بصري، تكتبه سارة قنطار وتخرجه وتنتجه، إضافة إلى تصويره وتوليف الصوت فيه: "من غرفتي في باريس، في المنفى، بعد سبعة أعوام أمضيها بعيداً عن وطني سورية، وعن والدي الباقي وحيداً، مع أشباح الماضي والمستقبل الضائع، كما يقول لي دائماً، أسجّل محادثاتنا الهاتفية عبر الإنترنت". تُضيف (الموقع الإلكتروني الفرنسي film-documentaire.fr): "الفيلم تحقيق شخصي في التجربة السورية والعلاقة بين المنفى والوطن، وبيني وبين والدي، والغريب الذي في الخارج والغريب الذي في الداخل. كلّ ما يجمعنا صوتٌ متقطّع نحاول عبره أنْ نكون معاً".
في "سينما الدنيا"، يُمكن استكشاف خرابٍ يصنعه انفصالٌ أيضاً، وإنْ يكن الانفصال هنا بين ماضٍ وراهن، وبين أنماط تفكير متعلّق بمعنى الصالة السينمائية، وموقعها في الفرد والجماعة. هنا أيضاً "مستقبل ضائع"، وأشباح الماضي تُصبح بهاءً مقتولاً. علاقة الحبّ الناشئة بين ابنة وأب/أب ـ ابنة فاعلةٌ في أفرادٍ يسردون، أمام الكاميرا (مدير التصوير عربي أبو لبادة) نتفاً من ذكرياتٍ وعيشٍ، وشيئاً من أحوال وأزمنةٍ، بحبّ يُشبه أي حبّ صادق وشفّاف، مُصاب بخيبةٍ حادّة، تنشأ من انقلاب أقدار ومصائر.
اكتفاء سارة قنطار بتسجيلاتٍ عدّة كفيلٌ بصُنع وثيقة بصرية عن حالة فردية، مفتوحة على خراب بلد واجتماع وحياة. كلام عاملين في صالةٍ يجعله عمرو علي وثيقة بصرية عن حالة جماعية، يُصاب الفرد فيها بعطب التحوّل في مسار عيش وسلوك.
فيلمان قصيران يُكثّفان، بأسلوبين مختلفين، بعض ذاكرة وتاريخ وراهن، لفردٍ وجماعة.