عاد المخرج التونسي رضا الباهي (1947)، في جديده "جزيرة الغفران" ـ المُشارك في المسابقة الدولية للدورة الـ44 (13 ـ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" ـ إلى الماضي البعيد، تحديداً إلى فترة خضوع تونس للانتداب الفرنسي (1881 ـ 1956). لكنّه لم يعد مباشرة إلى العلاقة بين المُستعمَر والمُستعمِر، وما ينتج عنها من تفاعلات وصدامات ومواجهات، كما بيّن التاريخ، بل اختار أنْ يكون هذا الجانب هامشاً وبإشارات سريعة، بإظهار دور المُناضل التونسي فرحات حشاد (1914 ـ 1952)، وقتله بطريقة وحشية لقمع النضال، علماً أنّه لم يُظهِر صورته، بل مَشاهد موحية، أوصلت الرسالة إلى المُشاهد، الذي عرف عبرها الفترة الزمنية المحدّدة، التي شهدت أحداث هذا الفيلم الحميمي. كما ركّز على النسيج المجتمعي وعلاقات الأفراد، مع تقديم صورة شاملة عنهم لفهم أبعاد تلك المرحلة، وفقاً لشرطها التاريخي.
اختار الباهي، المخرج وكاتب سيناريو الفيلم وحواره، جزيرة جربة (تونس) حيّزاً للأحداث. اختيارٌ غير اعتباطي، فالجزيرة فضاء رمزي مهمّ، يعكس العيش الديني والحضاري، بحسب سردية الباهي، بين المسيحيين والمسلمين واليهود، مُتحسّراً على هذا الماضي، لأنّه عكس طفولته بشكل ما، علماً أنّ الفترة الزمنية مُحدّدة بعام 1952، عندما كان عمره 5 أعوام. أي أنّه يُعيد ماضيه بشكل ما، باستدراج التاريخ والجغرافيا ليُحاكيا طقوسه ومداراته واهتماماته وأحلامه الطفولية. لكنّ هذا المعطى يبقى نسبياً، ولا يُشكّل الحقيقة المطلقة.
في المقابل، هناك إشارات عدّة وواضحة، تجعل "جزيرة الغفران" منطقةً حيوية غارقة في النوستالجيا، تجتمع فيها جاليات محلية وأوروبية، انعكست جليّاً في التعدّدين الثقافي واللساني. أبرِزَ هذا المنطق في بناء درامي، وزّعه الباهي على قسمين: الأول يعكسه الحاضر، الذي يُمثّله أندريا، العائد إلى جزيرة جربة ليستحضر تاريخ عائلته ويُعيد كتابته، تشحنه ذكريات البيت الذي ولد وتربى فيه على الشاطئ، وقد تحوّل في الزمن الدرامي الراهن في الفيلم إلى فضاء سياحي، لكنه ما زال محافظا على نمطه ومعماره كما قال، من خلال الدردشة التي جمعته مع المالكة الجديدة، التي أحضرت له صورة قديمة تخصّ عائلته، كانت مهملة في أحد زوايا البيت. القسم الثاني يعكس الماضي، المُجسّد مشهدياً، لأندريا حين كان طفلاً، يعيش وسط عائلته ذات الأصول الإيطالية، مع والده داريو (علي بنور) الصيّاد، ووالدته روزا (كاتيا جريكو)، ذات الجمال المتفرّد، التي تُدير حانة. إضافة إلى جدّته من أمّه، أوغستينا (كلاوديا كاردينالي)، والعمة إيلينا (باولا لافيتي) المُحبّة للأزياء والغناء والفنّ.
لكنْ، سرعان ما تتغيّر هذه الحياة، بعد أنْ يأتي عمّ أندريا من نابولي الإيطالية، والذي يُشتبه بانتمائه إلى المافيا. عودة لم تُرح العائلة، خاصة الأم الشابة روزا، التي تربطها في الماضي علاقة غرامية به، لتنكشف أمور عدّة مع تقدّم الأحداث، منها سرّ العمّة إلينا، التي أخفت الخطابات التي كانت تصل إليها، وهذا جعل حقد روزا يذوب، بعد معرفة الحقيقة الجارحة، ولو متأخّراً، خاصة أنّ العم كان مُصمّماً على استرجاع حبيبته من أخيه الذي تزوّجها. إضافة إلى قراره بيع البيت والمساحة المحيطة به إلى رجل مافيا ايطالي، ليحوّلها إلى مجمّع سياحي. لاحقاً، يتبيّن أنّ ملكية الأرض تعود إلى الفاتيكان، بعد أن تنازل عنها الجدّ الأكبر. عندها، تُقرّر روزا ترك البيت، وأخذ ابنها وزوجها شبه المشلول داريو معها، والسكن في حيّ وسط المسلمين، بعد أنْ أحسّت أنّ علاقتها مع أسرتها باتت مُهدّدة، في ظلّ المعطيات الجديدة.
وجدت روزا في مسكنها الجديد أنّ هناك فئة تحاول إدخال داريو، الذي لم يعد ذا ذهن صافٍ، إلى الإسلام. تتعقّد الأمور أكثر، بعد تشعّب الأحداث وتوسّعها، قُتل فيها العمّ، الذي تبيّن أنّه والد الطفل، وألقي القبض على مناضلين سياسيين ومُقاومين، من بينهم ابراهيم (محمد السياري)، صديق العائلة، المنتمي إلى تيار فرحات حشاد، الذي عُثر عليه جثة هامدة، مليئة بالرصاص.
استطاع رضا الباهي إبراز التنوّع المجتمعي في جزيرة جربة. فرغم اختلاف الدين واللسان، الموزّع بين المحكية التونسية والإيطالية والفرنسية، هناك حدٌّ أدنى من التفاهم والانسجام، لأنّ المُعطى الأساسي الذي يجمعهم كامنٌ في مبدأ المشاركة في كلّ شيء تقريباً، في الأرض التي يقيمون عليها، وفي التبادل التجاري والحرفي والمهني والخدماتي. أيْ أنّ كلّ جهة بحاجة إلى الأخرى، وإن تكن هناك اختلافات، حتى لا نقول خلافات. لهذا، وجب إيجاد صيغة تفاهم للعيش في سلامٍ، وهذا حدث في تلك الفترة الزمنية، بحسب سردية الباهي، الذي لم يتخلَّ عن الحسّ الكوميدي في مَشاهد عدّة، لكسر رتابة الأحداث، وبعض السوداوية. تمّ توظيف أحداثٍ وقوالب درامية للترفيه عن المتلقّي، عبر مشاهد صُور التطرّف الديني، ومحاولة بعض الأفراد إدخال داريو، المشلول والمضطرب نفسياً، إلى الدين الإسلامي. مشاهد، رغم مرارتها، ولّدت نكهة خاصة في الفيلم، فالباهي قدّمها بطريقة عبثية.
ينطلق "جزيرة الغفران" من مبدأ أساسي ومهمّ: الحنين الجامح إلى الماضي، والحسرة على تلك الفترة وما فيها، بآلامها وأفراحها. أوجد الباهي حيّزاً واسعاً من مَشاهد الحب والخيانة والأمل والتمسّك بالأرض والهوية، وقدسيّة الأشياء، في قصّة متينة تمّ بناؤها بعناصر كلاسيكية، لكنّها كانت القالب المناسب الذي نقل تلك المكوّنات الأساسية. كما نجح في استحضار أجواء الأفلام الإيطالية الكلاسيكية، بعد أن وفّر لها البيئة والشروط المناسبة، كالتركيز على عائلة ايطالية لتكون بؤرة محورية للأحداث.
لهذا، وجَبَ استحضار طريقة لبس هؤلاء وعيشهم وتصرّفاتهم، فاستعان بممثلين ايطاليين، أشهرهم وأكثرهم حضوراً كلاوديا كاردينالي، التي أعطاها دوراً عكس تقدّمها في السن، فعاشته بكلّ حبّ.
رغم أنّ القصّة وأحداثها جرت في جزيرة جربة، كان يُمكن تغيير هذا الفضاء، وجعله في فضاء إيطالي، مع إحداث تغييرات بسيطة، خاصة أنّ اللغة الإيطالية حاضرة بقوّة في كل التفاصيل، ما يعطي الفيلم قابلية التأقلم في أيّ فضاء إيطالي. كأنّ حبّ الباهي للسينما الإيطالية (أعلن عن هذا مرات عدّة) جعله يُخرج فيلماً إيطالياً بطريقة ما، عبر تحايل جميل. هذا كلّه لتحقيق أحلامٍ مؤجّلة.
"جزيرة الغفران" قدّم دروساً بليغة في تمجيد العيش بين الأطياف والأديان. ذهب رضا الباهي أبعد من ذلك، بتقديمه خلاصات فكرية، يُمكن للمتلقّي أنْ يخرج بها بعد المُشاهدة: الماضي أجمل وأكثر عيشاً وتفهّماً لكلّ تفاصيل المجتمع. بالتالي، يذمّ الحاضر بهذا المعطى وإن لم يذكره، تاركاً الفهم للمتلقّي الذي يعيشه الآن، وفاتحاً مقارنة عملية بين ما وضعه أمامه في الفيلم، وما يعيشه حالياً، والنتيجة ستكون سلبية، حتماً.