بعد مضي أربع سنوات على إطلاق فيلمه المثير للجدل Girl، يعود المخرج البلجيكي لوكاس دونت بفيلم Close، الذي حاز على الجائزة الكبرى لأفضل فيلم في مهرجان كان نسخة 2022، وبات واحدًا من أبرز المحطات السينمائية لعام 2022، وأكثرها امتداحًا من قبل نقاد السينما.
خلافًا لمواضيعه الفجة السابقة، يقدم دونت هنا قصة أقل مباشرة ووضوحًا، تتمحور حول تفكك الصداقات، خاصة تلك التي تُعقد في سن الطفولة، وسط باحات المدارس وفي أزقة المدن الصغيرة. لكن تقدم الأحداث عبر ما يقارب الساعتين من الزمن، يكشف عن معان أعمق مما يظهره سطح تلك الحكاية البسيطة؛ ليو (إيدن دامبرين)، وريمي (غوستاف دي وايلي)، صديقان مقربان لا يتجاوزان الـ13 من العمر، ينامان ويدرسان ويكتشفان معنى الحياة معاً، لكن صداقتهما الوثيقة تلك توضع على المحك عندما تسخر منهما فتيات المدرسة، اللاتي يعتقدن أن قربهما يوحي بشيء آخر لا يفصح عنه الصبيان علنًا. يتجاهل ريمي، وهو عازف الناي البارع، تلك الافتراضات، في حين يقع ليو فريسة لتهامسات الطالبات، ويقرر الابتعاد عن صديقه بشكل مفاجئ، لا يستوعبه ريمي ويتخذ على أثره قرارًا مؤلمًا بإنهاء حياته.
غالبًا ما يبدأ شجار الصغار بإشهار الخنصر إعلانًا عن بدء خصومة، لا تُبطلها سوى علامة مضادة تُنفذ برفع إصبع الإبهام، فيعم السلم من جديد. لكن ما الذي يحدث في الوقت المستقطع ما بين هاتين الإشارتين؟ وإلى أي مدى يمكن لتلك الخصومة أن تكون جادة؟ قد يبدو عالم الأطفال أكثر براءة من عالم البالغين، لكنه بالتأكيد ليس أقل تعقيدًا أو شراسة، إذ يوضح فيلم Close أنه يمكن للأطفال أن يكونوا عنيفين بطريقتهم الخاصة أيضًا، كما يستدعي سلوكهم التدميري أسئلة من نوع تصعب الإجابة عنه، خاصة في ما يتعلق بمفهومي المساءلة وتحمل العواقب والتبعات.
يضع دونت كامل ثقل فيلمه على مشهد يتعرض فيه كل من ليو وريمي للتنمر اللفظي من قبل بقية رفاقهما في الصف. لن يصنع ذلك الحوار البسيط بين طلاب المدرسة أولى انعطافات الفيلم فحسب، بل سيمهد لتغير أبطال القصة وحياتهم إلى الأبد، ويكشف عن الأفكار المسبقة التي يتبناها الكبار ويرثها الصغار حول مفهوم "الحميمية" بين الأصدقاء والمقربين. ليس من المقبول، كما ترى فتيات المدرسة، أن يعبر الذكور البيولوجيون عن مشاعرهم الرقيقة، ولا أن يطوروا علاقات وثيقة في ما بينهم، بينما يبدو ذلك منطقيًا تمامًا في العلاقات بين الإناث.
تسيطر تلك الفكرة على رأس ليو الذي تنكمش براءته حال تعرضه لتلك الملاحظات ذات البعد الجنسي، ويبدأ بعيش صراع ذاتي لاكتشاف هويته أو نبذها، فيتجنب التفاعل مع صديقه، ويحرص على عدم ملامسته، ويتجه بدلًا من ذلك لقضاء الوقت مع الفتيان الأكثر "ذكورة" في المجموعة، ولممارسة رياضة الهوكي بكل ما فيها من عنف جسدي وتعبير صارخ عن القدرة الفيزيولوجية المرتبطة بمفهوم الرجولة.
هنا، يتضح أن فيلمنا لا يشرّح صدمات الطفولة وآثارها المستقبلية على الطفل فحسب، بل يبحث في أساليب تشكل الهويات الفردية، وفي أسباب نشوء النزعات المتطرفة والآراء الحادة. ويرجح أن بعضها يمثل ردود فعل على تجارب شخصية مؤلمة يعيشها الفرد خلال حياته، وخاصة في مرحلة الطفولة.
إلا أن بعض التجارب لا تمنحنا فرصة للعودة سالمين منها، فريمي المصعوق بهجران صديقه، ينهي حياته ويضع بذلك حدًا لعالم الفيلم البريء ولطفولة ليو، الذي يكتشف للمرة الأولى معنى الموت عن قرب. يخيم الحزن على المدينة بأكملها، وتسارع المدارس إلى إجراء جلسات علاج كلامية، لا تثمر في حالة ليو الذي يخوض رحلة ذنب مريرة، بينما يتعامل في الوقت ذاته مع مشاعر ليس بوسعه إيجاد كلمات مناسبة للتعبير عنها، فيكافحها بالصمت والانزواء عمّن حوله أكثر فأكثر، وبالمزيد من العمل الزراعي المضني والعنف المبالغ فيه في ساعات الهوكي الأسبوعية. وبدلًا من البكاء، يكسر ليو ذراعه أثناء اللعب، وكأن الفقد يهوي على عظامه بمطرقة ويترك عطبًا على شكل جبيرة مغطاة بخربشات الأطفال، لن يخلعها إلا الوقت.
يصنع الفيلم استعارة مكثفة عن عملية النضج التي يمر بها الفرد، بوصفها واحدة من أشرس التجارب البشرية وأكثرها حدة. ليو، بعد احتكاكه بالموت مرتين، الأولى مع موت براءته، والثانية عند موت صديقه، يبدو أكبر في القسم الثاني من الفيلم، فتضاف إلى قسمات وجهه سنوات لم تمر فعلًا، ويغدو حديثه أكثر اتزانًا ومسوؤلية وحزنًا.
فقط مع نهاية الفيلم يزور ليو والدة ريمي (إيميلي ديكين)، التي لا تملك إلا الدموع ممزوجة بابتسامة ترتسم على وجهها بصعوبة. ويصر على حضور الحفل الموسيقي الذي كان من المفترض أن يحييه ريمي. ينتزع ليو الجبيرة، يبكي، وتبرز فرصة للشفاء والتخطي، لكن مع كثير من الألم والأسى اللذين لم يكونا موجودين من قبل، وبحزن بات مزمنًا بعدما عهده طفلًا على شكل نوبة عابرة تزول مع زوال مسبباتها.
يقدم السيناريو الذي شارك المخرج في كتابته، إلى جانب المؤلف أنجيلو تيسنس، وحظيا على أثره بجائزة أفضل كاتبي سيناريو في مسابقة جوائز الأفلام الأوروبية لعام 2022، اختزالًا مدروسًا للحوارات التي تبتعد في مجملها عن الثرثرة وشرح الغايات، وتتكئ على خلق المناخ العام، والتركيز على وطأة الحدث بدلًا من الحدث ذاته، خاصة في تصوير الحالة النفسية لليو، الذي يؤدي الطفل إيدن دامبرين دوره بكلمات قليلة فقط، وبكثير من الاشتغال على الجسد وإيماءات الوجه الدقيقة.
أما السينماتوغرافيا التي عمل عليها المصور السينمائي فرانك فان دن إيدين، فتساهم إلى حد كبير في نقل مشاعر الشخصيات وتحركاتها ضمن فضاء محدود، ترصده كاميرا متحركة محمولة يضيف اضطرابها إلى الاضطراب العام، فضلًا عن لونية المشاهد التي تتدرج بين الأصفر والبرتقالي الدافئ في غرف الأطفال، والأرزق الرمادي الباهت في صالات لعب الهوكي الجليدي، واسمةً كل مكان تضيئه بمزاج خاص ودرجة من "الحميمية" تحدد علاقة المتلقي بما يعرض أمامه.
يروي فيلم Close بحكاية بسيطة واحدة من أعقد التجارب البشرية وأكثرها إرباكًا، ويتعامل مع التجارب المصاحبة لعملية النضج في عالمنا المعاصر، محاولًا رصد الألغام الخفية في تلك الدرب الطويلة. أما الحزن، فيعبر مسامنا ويتغلغل ويغدو جزءًا لا يتجزأ مما أصبحنا عليه اليوم.