تمثل نصوص المولد النبوي جانباً رئيساً ومهماً من منظومة الغناء الديني. ويتجلى انتشارها واستعادتها كل عام، مع دخول شهر ربيع الأول، وبدء الاحتفال في كل مكان بذكرى النبي محمد. محافل المولد تنتشر في كل ربوع مصر، في كل مدينة وقرية وحيّ، وفي معظم المساجد والساحات.
ولا ريب في أن إحياء ذكرى المولد بقراءة تلك النصوص، أمر منتشر في معظم بلدان العالم الإسلامي، لكن مصر – كعادتها – تضع قبساً من روحها في كل فن. وبأصوات شيوخها ومنشديها، أصبح للمولد طابع مصري خاص، يجمع بين الروحانية والإطراب... بين سرد السيرة ورصف النغم.
يعرف التراث الصوفي عشرات الموالد، التي صاغ نصوصها أعلام كبار في مختلف حقب التاريخ الإسلامي، ومن ذلك مولد "إتمام النعمة الكبرى" لابن حجر الهيتمي، وبغية العوام في شرح مولد سيد الأنام لابن الجزري، والكواكب الدرية في مولد خير البرية لأبي بكر بن محمد الحبشي البسطامي، وقلائد العقيان في مولد سيد ولد عدنان للسيد محمد بن خليل الطرابلسي المعروف بالقاوقجى، والدر المنظم في مولد النبي الأعظم لأبي العباس أحمد الإقليشى الأندلسي، والجواهر السنية في مولد خير البرية، لمحمد بن علي المصري، المعروف بالشنواني، وجواهر النظم البديع في مولد النبي الشفيع، للشيخ يوسف النبهاني، وروضات الجنات في مولد خاتم الرسالات، للشريف أبو الهدى محمد باقر الكتاني، والمورد الروي في المولد النبوي للملا علي القاري، وغيرها من عشرات النصوص للقدماء والمحدثين.
إلا أن الاحتفال بالمولد النبوي في الديار المصرية، يهيمن عليه نصان كبيران، هما الأشهر والأوسع انتشاراً في المدن والقرى، الأول هو مولد البرزنجي، المسمى عقد الجوهر في مولد النبي الأزهر، للمحدث جعفر بن حسن البرزنجي، والثاني هو مولد المناوي، المعروف بالتعطيرة الشريفة، للشيخ أحمد المناوي الشاذلي... على هذين النصين مدار الاحتفالات في مصر، ثم تأتي بعض النصوص الأخرى بدرجة أقل بكثير.
وقد كان الشائع في الاحتفالات الشعبية، قراءة قصة المولد من أحد النصين، كل ليلة من ليالي شهر ربيع الأول، وفي بعض الأحيان يقرأ المنشد أجزاءً من المولد، أو يختصره إن لم يسمح الوقت بقراءته كاملاً، وكان هذا الاختصار يكثر من المنشدين الكبار، الذين يتفننون في إنشاد القصة النبوية، ويستعيد الجمهور ما يسمعه من أفانين الطرب والقفلات والانتقالات النغمية.
ومولد البرزنجي نظم تتكون جميع عباراته من شطرتين: الأولى تنتهي بياء مشددة، بعدها هاء أصلها التاء المربوطة: "أبتدئ الإملاء باسم الذات العلية" والثانية تنتهي بهاء قبلها ألف المد: "مستدراً فيض البركات على ما أناله وأولاه"... وقد حفظت التسجيلات أجزاء من هذا المولد بصوت أعلام المنشدين المصريين، وفي مقدمتهم الشيخ علي محمود، في محفل خارجي، يظهر تفاعل المستمعين مع الشيخ المتفنن، وبعد كل مقطع، تدخل البطانة، بالتعطيرة الشريفة: "عطر اللهم قبره الشريف بعرف شذي من صلاة وتسليم" قبل أن ينتقل الشيخ إلى أداء نشيد "طلع البدر علينا".
وللشيخ محمود خليل الحصري تسجيل مطول لمولد البرزنجي، يغلب عليه الأداء المعتاد من الشيخ في تلاوة القرآن، ويكتسب قيمته من كون الحصري قارئاً لا منشداً، كما يعتبر نموذجاً يبين أن التفوق في ميدان التلاوة لا يلزم منه الإجادة في ميدان الإنشاد، فرغم صفاء صوت الشيخ، ووضوح مخارج حروفه، إلا أن تسجيله لمولد البرزنجي جاء خالياً من الجماليات الفنية، أو الجمل الطربية.
وبالقدر نفسه من الانتشار أو أكثر، يأتي مولد الشيخ أحمد المناوي الشاذلي، وشطراته الأولى مقفاة بياء مشددة بعدها هاء مبدلة من التاء المربوطة، مثل مولد البرزنجي، لكن الاختلاف يأتي في الشطرة الثانية، التي تنتهي دائماً بميم قبلها ألف مدية: "الحمد لله الذي أنار الوجود بطلعة خير البرية... سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام... قمر الهداية وكوكب العناية الربانية... مصباح الرحمة المرسلة وشمس دين الإسلام... من تولاه مولاه بالحفظ والرعاية الأبدية... واعلى مقامه فوق كل مقام".
وأوصلت إلينا الأسطوانات عدداً من أهم التسجيلات لمولد المناوي بأصوات عباقرة الإنشاد، ومن أشهر هذه التسجيلات، مسمعاً من المولد بصوت الشيخ إبراهيم الفران، الذي يستعرض المناطق الحادة من صوته، ولا سيما مع دخول البطانة بجملة التعطيرة... وبسبب قصر مدة الأسطوانة، ينتقل الفران من استهلال المولد مباشرة إلى الجزء الذي يذكر ما كانت تشاهده السيدة آمنة من العجائب في أثناء حملها بالنبي الأكرم، وهذا الجزء من أكثر أجزاء مولد المناوي شعبية.
وفي مقدمة الأصوات التي أدت مولد المناوي، يأتي الشيخ طه الفشني، وله أكثر من تسجيل، لمقاطع المشاهد العجيبة للسيدة آمنة... واتسم أداء الفشني كعادته بالإطراب الشديد، والثراء النغمي، واستخدام كامل مساحته الصوتية، والتفنن في الانتقالات النغمية... للفشني حظ وافر من تسجيلات الاحتفال بذكرى المولد النبوي، سواء بقصة المولد، أو بالقصائد الموضوعة خصيصاً لهذه المناسبة.
ويجد المهتم بمولد المناوي على شبكة الإنترنت عدداً من التسجيلات لمقاطع مختلفة من التعطيرة الشريفة بأصوات الشيوخ إسماعيل سكر، ومحمد الفيومي، وسيد النقشبندي، ومحمد عمران.
رغم الهيمنة الكبيرة لمولدي البرزنجي والمناوي على احتفالات المولد النبوي في مصر، إلا أن ذلك لا يعني الاقتصار الكامل على هذين النصين، فهناك مساحة لنصوص أخرى من قصة المولد، وكذلك توجد مساحة للقصائد والأناشيد... ومن النصوص التي تجد مكاناً في الاحتفالات مولد العزب، وهو نظم وضعه الشيخ محمد العزب على مولد البرزنجي.
ولقصائد المديح مكانها المعتبر في الاحتفال بذكرى المولد، وفي مقدمتها تأتي بردة الإمام البوصيري، التي أداها كثير من المنشدين بطرائق مختلفة، وكذلك الهمزية التي ترك إبراهيم الفران تسجيلاً نفيساً لبعض أبياتها... وفي تراث المنشدين المصريين الكبار، يجد المستمع تسجيلات متعددة لقصيدة يا أيها المختار، يتقدمها محفل طه الفشني الشهير بمسجد الإمام الحسين بالقاهرة، كما يجد تسجيلات للقصيدة، بأصوات النقشبندي ونصر الدين طوبار ومحمد عمران.
ولا ريب في أن نصوص الموالد، مثلت ميداناً رحباً للارتجال، وإظهار التمكن النغمي للمنشدين، وقدرتهم على الأداء الفوري المباشر المتناسب مع التجاوب الجماهيري وطلبات الاستعادة، ومدى تماسك البطانة، والرشاقة في التسليم والتسلم... فكلمات مولد البرزنجي أو المناوي تمثل نصاً مفتوحاً، يكاد يخلو من التفعيل الإيقاعي، ولا توضع له ألحان مسبقة، فهو لحن مرسل بكامله، إلا الكلمات القصيرة للتعطيرة التي ترددها البطانة.
والتفوق المشيخي في الارتجال يأتي من حالة المران الدائم التي يحياها الشيوخ، بسبب تلاوة القرآن، والنصوص المرسلة بوجه عام، ما ينعكس على صقل الأداء ورزانته وتماسكه... ولذا، كانت تلك الأجواء المشيخية دائماً من أهم المنابع التي استقى منها كل المطربين والموسيقيين والعازفين الذين تركوا أثراً كبيراً في الحياة الفنية العربية.
يمثل مجلس المولد حالة فريدة، جديرة بالتأمل والدراسة، فهو لقاء روحي ديني، وهو أيضاً ملتقى فني موسيقي غنائي... يبدأ غالباً بتلاوة القرآن، وصلوات جماعية على النبي، ورغم وجود منشد رئيس أو أكثر، إلا أن الجمهور المشارك يتحول عند اللزوم إلى "كورال" أو "بطانة" تردد مقاطع معينة، أو "التعطيرة" التي تتكرر عقب كل فاصل من فواصل المولد المختار للقراءة في الحفل.
تذكر المصادر الصوفية، قرابة مائة نص للمولد النبوي، تتفاوت في طولها ورونق نظمها، وكذلك تتفاوت في انتشارها وشهرتها، لكن هذه النصوص في عمومها، كان عبر عقود أو قرون العمود الفقري لإحياء ليالي شهر ربيع الأول، وإظهار كل مشاعر الحب والإجلال لشخص نبي الإسلام، فنصوص الاحتفال بالمولد يتوارثها المصريون كابراً عن كابر، حتى صارت جزءاً من الوجدان الديني والفني للجماهير العربية، وميداناً فسيحاً للتباري الموسيقي والصوتي بين المقتدرين من شيوخ الفن.