سيعود غاري لينيكر إلى تقديم برنامجه المستقل "مباراة اليوم" Match of the Day على شاشة "بي بي سي" اعتباراً من نهاية الأسبوع الحالي، بعد توصله إلى تسوية مع القناة البريطانية العريقة. إلا أن ما حدث بين الطرفين فتح نقاشاً يصعب إغلاقه في وقت قريب حول مسائل عدة، بما فيها الحياد وحرية التعبير، والأهم سياسة حزب المحافظين تجاه ملف الهجرة.
حتى مساء الجمعة الماضي، لم تكن شريحة كبيرة من الناخبين قد اطلعت على مشروع القانون الجديد الذي أعلنت عنه الحكومة البريطانية، ممثّلة برئيسها ريشي سوناك وبوزيرة الداخلية سويلا بريفرمان. هذا القانون سيتيح لها احتجاز طالبي اللجوء القادمين إلى شواطئ المملكة المتحدة عبر القوارب الصغيرة، ثم ترحيلهم فوراً إلى بلدهم الأصلي أو إلى بلد ثالث "آمن" مثل رواندا، على أن يمنعوا مستقبلاً من دخول المملكة لأي سبب من الأسباب.
إلا أن الإجراء الذي اتّخذته إدارة "بي بي سي" بحق لينيكر، بتعليق عمله الجمعة الماضي، فتح الأعين على سياسة الحكومات المتعاقبة لحزب المحافظين تجاه الهاربين من جحيم الحروب والقمع والتعذيب والعبودية الحديثة. وبات رأي لينيكر العلني بخطاب الحكومة الذي يشبه "خطاب الثلاثينيات في ألمانيا" (في إشارة إلى زمن النازية) متاحاً لأكثر من 8 ملايين متابع له على "تويتر". كما اتّسعت دائرة الأسئلة حول "حياد" القناة نفسها، وحول مدى تأثير حزب المحافظين على "صناعة الرأي" وترويج خططه وسياساته "الشعبوية"، عبر وسيلة إعلام تدّعي الموضوعية، ولطالما دافعت عن الرأي والرأي الآخر، وجعلت من حرية التعبير شعاراً لها. هي التي سبق للكاتب الشهير جورج أورويل صاحب "1984" أن عمل فيها منتجاً للحوارات التلفزيونية، وهي أيضاً التي نصبت خارج مقرّها تمثالاً له ونقشت على الحائط عبارة: "إذا كانت الحرية تعني أي شيء على الإطلاق، فهي تعني الحق في إخبار الناس بما لا يريدون سماعه".
بعد 73 عاماً على رحيل أورويل، بادر أسطورة كرة القدم المتقاعد إلى تذكير الحكومة بما لا تودّ سماعه، فوجدت هيئة الإذاعة البريطانية نفسها أمام اختبار بديهي حول الحريات وحق التعبير عن الرأي، إلا أنها فشلت في اجتيازه، عبر إثارتها مسألة الحياد وإيقافها البرنامج الرياضي الشهير الذي ينتظره كل أسبوع ملايين البريطانيين.
وربما لن يبدو اعتذارها من لينيكر وتراجعها عن إيقاف برنامجه كافياً، إذ ستبقى مسألة حرية التعبير حاضرة في الأذهان، خاصة مع ارتفاع أصوات الموظّفين القائلة إن القناة "تنزلق إلى اليمين سياسياً" أكثر فأكثر، وإن أعضاء مجلس إدارتها ليسوا سوى "وكلاء نشطين لحزب المحافظين". وأظهر استطلاع للرأي أجرته شركة يوغوف أن 53 في المائة من عموم البريطانيين وجدوا أن "بي بي سي" كانت مخطئة في إيقافها لينيكر، بينما وجد 27 في المائة فقط أنها كانت على صواب. وليست نتائج هذا التصويت مدوّية بالنسبة للقناة فقط، بل أيضاً بالنسبة للحكومة ولسياساتها اليمينية المعادية للاجئين.
ومع أن المدير العام لـ"بي بي سي" تيم ديفي أعاد التأكيد على أن "الحياد أمر مهم بالنسبة لهيئة الإذاعة البريطانية وبالنسبة للجمهور"، وأن هيئة الإذاعة البريطانية "تلتزم بالحياد في ميثاقها"، إلا أن لينيكر أعاد التشديد في تغريدة له على موقفه من سياسة الحكومة تجاه طالبي اللجوء قائلاً: "مهما بلغت صعوبة الأيام القليلة الماضية، فلا يمكن مقارنتها بمعاناة من يضطر إلى الفرار من منزله هرباً من الاضطهاد أو الحرب، وبحثاً عن ملجأ في أرض بعيدة". كما شكر المتضامنين معه الذين أثبتوا "أننا لا نزال دولة تسامح وكرم وضيافة"، وكأنه يلمّح إلى أن الحكومة الحالية ليست القاعدة "الأخلاقية" بل الاستثناء.
لينيكر، مهاجم "توتنهام" و"ليستر سيتي" السابق، يعدّ المقدم الأعلى أجراً في هيئة الإذاعة البريطانية الممولة من القطاع العام، براتب سنوي قيمته 1.35 مليون جنيه إسترليني (1.60 مليون دولار أميركي)، وفقاً للأرقام المنشورة العام الماضي.
وإن كانت هيئة الإذاعة البريطانية قد خسرت خلال الأيام الماضية جزءاً من مصداقيتها وشعبيتها، فإن حكومة المحافظين خسرت مرّتين، مرة عندما اتضح اتساع سلطتها ومدى تأثيرها في القناة التي تدافع عن "حرية التعبير"، ومرة عندما تعرّضت خطّتها الجديدة إلى امتحان أخلاقي وإنساني، مع أنها تدّعي أن تقييد وصول القوارب المحمّلة بالمهاجرين ليس سوى تلبية لتطلّعات الناخبين البريطانيين. يُذكر في هذا السياق أن استطلاعات الرأي الأخيرة تشير بوضوح إلى تراجع مخاوف الناخبين البريطانيين من ملف الهجرة وانشغالهم بملفّات أخرى.
وأعلنت إدارة "بي بي سي" عن خطّتها تكليف خبير مستقل ليراجع إرشاداتها حول وسائل التواصل الاجتماعي، مع التركيز بشكل خاص على كيفية تطبيقها على العاملين المستقلّين خارج غرف الأخبار، وهو ما ينطبق على لينيكر، على أن تبقى الإرشادات الحالية سارية ريثما تنجز المراجعة الجديدة. وكان ديفي قد أقرّ، مع قدومه إلى الإدارة عام 2020، مبادئ توجيهية جديدة وصفت بالـ "الصارمة"، تقيّد حرية الموظّفين في التعبير عن آرائهم حول القضايا السياسية المثيرة للجدل، متّخذاً من "الحياد" مبدأ أساسياً له. وتنصّ إرشادات "بي بي سي" على أن الآراء الشخصية للأفراد المرتبطين بالقناة، أو صنّاع المحتوى، أو العاملين في هيئة التحرير، أو المراسلين والمذيعين، قد تمسّ بـ"حيادية القناة". إلا أن المبادئ التوجيهية نفسها تعترف بأن "خطر المساس بالحيادية يتضاءل عندما يعبّر الأفراد عن آرائهم علناً في مجالات غير ذي صلة بنطاق عملهم"، أي عندما يعبّر مذيع الرياضة مثلاً أو مذيع الطقس عن رأيه في المستجدات السياسية أو الثقافية.
القناة نفسها دافعت خلال عامي 2016 و2018، أي قبل وصول ديفي إلى الإدارة، عن تعليقات أدلى بها لينيكر حول الأطفال المهاجرين، وحول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، بالقول إنه "مذيع مستقل"، وإن "القواعد الصارمة لا تنطبق بالتساوي على معلّقي البرامج الرياضية"، مما يعفيها من بعض المسؤولية تجاه "خرق" شعارات حرية التعبير، ويوجّه أصابع الاتّهام لشخصيات إدارية مقرّبة من الحزب الحاكم ومتّهمة بالترويج لسياساته، وبالاستجابة للضغوط التي يمارسها جناحه اليميني المتشدّد".
وتأتي الأحداث الأخيرة بعد شهر واحد فقط على "فضح" الدور الذي لعبه حزب المحافظين في وصول رئيس هيئة الإذاعة البريطانية، ريتشارد شارب، إلى منصبه عام 2021. إذ اتضح أن شارب ساعد الزعيم السابق بوريس جونسون في الحصول على قرض قيمته 800 ألف جنيه إسترليني، قبل عام من مجيئه إلى "بي بي سي".
نجا لينيكر اليوم من الإعفاء الوظيفي، لكن هل سينجو "المبدأ الأخلاقي" الذي دافع عنه؟ وهل سينجو عشرات الآلاف من الهاربين من جحيم الحروب والقمع والخوف؟