رغم أن الرئيس التونسي قيس سعيد يكاد لا يفوّت فرصة إلا ويكرّر فيها احترامه للحريات الفردية والجماعية ولحرية الصحافة، إلا أن الواقع على الأرض يبيّن عكس ذلك. فالصحافة التونسية تعيش منذ قرارات الرئيس الاستثنائية التي أصدرها في 25 يوليو/تموز 2021 واستفرد على أثرها بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، فترة صعبة مع تزايد حجم الاعتداءات والمحاكمات المدنية والعسكرية للصحافيين، ووقف التفاوض مع النقابات الممثلة لهم، ومنعهم من الوصول إلى المعلومات، ما أدى إلى تراجع تونس في مؤشر حرية الصحافة الذي تصدره سنوياً منظمة "مراسلون بلا حدود".
صعوبة الوصول إلى المعلومات
يعاني الصحافيون من غياب مصدر رسمي للمعلومات فى ظل إصرار سعيّد على عدم تعيين ناطق رسمي باسم الرئاسة، ما يصعّب عملهم ويجعلهم في مرمى الوقوع فى الخطأ. ورغم مساعي نقيب الصحافيين التونسيين محمد ياسين الجلاصي لتحسين العلاقة مع الرئاسة وطلبه من سعيّد تعيين ناطق رسمي باسمه يسهل وصول الصحافيين إلى المعلومة، إلا أن الرئيس رفض هذا الطلب ورآه بلا جدوى وفق ما يؤكد الجلاصي لـ"العربي الجديد".
وما زاد الطين بلة كان إصدار رئيسة الحكومة نجلاء بودن المنشور رقم 19 الذي يمنع كبار الموظفين والمسؤولين من تقديم معلومات أو الإدلاء بتصريحات من دون إذن مسبق من رئاسة الحكومة، وهو الأمر الذى ترفضه النقابات الممثلة للصحافيين أي النقابة الوطنية للصحافيين، والجامعة العامة للإعلام المنضوية تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل، اللتين تريان في هذا القرار ضربا للعمل الإعلامي.
لا تفاوض مع النقابات
جرت العادة فى الإعلام التونسي أن يكون لممثلي القطاع دور فى صياغة القرارات الإستراتيجية لتنظيم عملهم من خلال جلسات التفاوض واللقاءات الدورية بين النقابات الممثلة للصحافيين والهياكل الممثلة لأصحاب المؤسسات الإعلامية من ناحية، وبين الحكومة من ناحية أخرى، وهو الأمر الذى ترفضه الحكومة الحالية التى عيّنها سعيّد. فقد أصدرت رئيسة الحكومة التونسية المنشور الرقم 20 الصادر في 9 ديسمبر/كانون الأول الماضي ونص على عدم تفاوض أي وزارة مع النقابات من دون الرجوع إلى رئاسة الحكومة. هذا المنشور اعتبرته عضوة المكتب التنفيذي في النقابة الوطنية للصحافيين فوزية الغيلوفي في تصريح لـ"العربي الجديد"، "ضرباً للحق في العمل النقابي وقطعاً لكل جسور التواصل مع النقابات الناشطة فى مجال الإعلام، واستفراداً بالرأي يعكس رغبة من الحكومة ومن ورائها الرئاسة في ضرب كل منهج تشاوري توافقي".
ارتفاع عدد الاعتداءات
اعتبر التقرير السنوي لواقع الحريات الصحافية الذي تصدره النقابة الوطنية للصحافيين، عام 2021 وبداية 2022 الأقسى على الصحافيين منذ خمس سنوات حيث سجل التقرير 214 اعتداء على العاملين في القطاع، وهو رقم مرتفع مقارنة بالسنوات الماضية. وقد أكد الجلاصي أن "أغلب الانتهاكات التي تم تسجيلها طيلة السنة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإجراءات الاستثنائية التي أعلنها رئيس الجمهورية قيس سعيد في 25 يوليو وجمع بمقتضاها جميع السلطات بيديه، وأصبحت السياسات الحكومية والممارسات اليومية تسير على النحو الذي رسمه الرئيس: تعتيم تام على المعلومات والمعطيات التي تهم الرأي العام، سياسة اتصالية منغلقة لا تعترف بحق المواطن في معرفة ما يجري في بلاده وحقه في المشاركة العامة، ضرب لحق الوصول إلى المعلومة والانتهاك الخطير لهذا المكسب الذي ناضلت من أجله أجيال من الصحافيات والصحافيين والمجتمع المدني والناشطين".
كما ارتفع عدد المحاكمات المدنية والعسكرية للصحافيين التونسيين من خارج النصوص القانونية المنظمة للقطاع الإعلامي وهما المرسومان 115 و116، واللجوء إلى نصوص ذات طابع زجري نتجت منها عقوبات سالبة للحرية مثلما حصل مع الإعلامي عامر عياد والإعلامية شذى الحاج مبارك، والعديد من المدونين منهم ياسين العياري، وآمنة منصور، وسليم الجبالي الذين وجدوا أنفسهم فى السجن نتيجة منشورات انتقدت قيس سعيد ومساره وقراراته الانقلابية.
تراجع تاريخي فى مؤشر حرية الصحافة
كل هذه المعطيات أدت إلى تراجع تونس في مؤشر حرية الصحافة وفقا لتقرير منظمة مراسلون بلا حدود من المرتبة 73 عالميا سنة 2020 إلى المرتبة 94 عالمياً، وهو تراجع لم يسبق أن عرفته البلاد بعد نجاح الثورة عام 2011 واعتبرته المنظمات الحقوقية المحلية والدولية مؤشراً على تراجع كبير في حرية الصحافة بعدما كانت هذه الحرية أبرز مكتسبات الثورة. كل ما سبق أوصل الصحافيين التونسيين إلى وضع هش اجتماعياً واقتصادياً بعد تراجع مستوى معيشتهم إثر انخفاض الرواتب وغلاء المعيشة، وهو ما يهدد مستقبل القطاع برمّته، وسط تجاهل رسمي تام.