تُنبّه شدّة التقارب والتداخل بين الفيلمين الهنغاريين، الوثائقي "جمال الوحش" (2022) والروائي "جنتل" (2022)، إلى مدى تشابك الأنساق التعبيرية البصرية، وانفتاحها على تجارب سينمائية، تخلط الواقعي بالخيالي، وتزجّ "الأبطال" الحقيقيين في مغامرات "تمثيل"، وفي الوقت نفسه تجعل من التمثيل واقعاً، مع حرص شديد على إبقاء الشرط الجمالي حاضراً، بل ـ وهذا مُتحقّق في الفيلمين ـ جعله مُحفّزاً لتحقيق مُنجز سينمائي لافتٍ في تفرّده ومقاربته مفاهيم جمالية، كالبحث عن الكمال الجسماني، وبلوغ أعلى مستوياته.
النادرُ في الجمع حاصلٌ في المُنجزين، بدرجات تقارب لافتة. مخرجة الوثائقي (جمال الوحش) آنا نيمز (1989)، تُشارك زميلها لازلو تسوغا (1984) في إخراج الروائي (جنتل). يبحثان في نشاط رياضي واحد: رياضة كمال الأجسام للسيدات. التشابك والاختلاط يزدادان بمعرفة أنّ بطلة الروائي، الممثلة إيستر تسونكا، هي في الواقع بطلة مشهورة في اللعبة، وتحضر كشخصية رئيسية في الوثائقي. تقنياً، يتولّى المُصوّر نفسه، زاغون ناجي، إدارة تصوير الفيلمين.
في تحديد النوع، لا يقبل الروائي وصفه بفيلم "إعادة" عن الوثائقي، لأنّ فكرة الأخير مُنبثقةٌ، أساساً، من مشروع معرض فوتوغرافي مُكرّس لبطلات رياضة كمال الأجسام في هنغاريا، اشتغلت عليه آنا نيمز، التي هي أصلاً مُصوّرة فوتوغرافية. بينما يأتي الروائي في سياق كتابةٍ سينمائية مشتركة بين مخرجيه، وفي اشتغالٍ يتجاوز واقع اللعبة الرياضية إلى مستوى البحث، درامياً، في الفكرة الفلسفية والجمالية لمفهوم الكمال الجسماني.
يُحيط صانعا الروائي بطلتهما إيديا في إطار درامي، يتتبّع تطوّر علاقتها بالناس المُقرّبين منها، وأوّلهم شريكها في المنزل، ومُدرّبها آدم (جيورجي توروس)، الفارض عليها شروطاً قاسية، لا فرار من التزامها، إذا أرادتْ حقاً أنْ تصبح بطلة العالم في مسابقات الكمال الجسماني للنساء. في زمن الفيلم كلّه، تخضع البطلة له. تُخفي عنه خوفاً، وشهيّتها للحلوى الممنوعة من تناولها. لا تمانع أخذ مكمّلات غذائية ومنشّطات هرمونية، تُضخّم عضلات جسدها، المقترب في تكوينه من جسد رجل يمارس اللعبة نفسها.
تحوّل الرجل إلى جبل عضلي يُثير الاستغراب، لكنّه في الحالة الأنثوية يُصبح مدعاة لنفور واشمئزاز. ذلك ما تشهد عليه تجارب لاعبات كمال أجسام، شاركن في الوثائقي. يصفن حالة الاشمئزاز المُعلَن من مظهرهنّ بدقّة، لا يقاربها الروائي، لاختياره الانغلاق على العلاقة الخاصة التي تجمع رجلاً/مُدرّباً مع امرأة. رجلٌ يعاملها كأداةٍ تؤدّي وظيفة معينة، من دون مشاعر. وحين يعجز عن توفير ثمن المُكمّلات الغذائية، لا يمتنع عن تشجيعها على قبول دور "مُرافقة" رجال، يبحثون عمّن يُحقّق لهم رغباتهم الدفينة في رؤية امرأة مُعضلة، فيها كلّ مواصفات القوة الجسمانية التي لا يتوفّرون عليها. قبولها بالدور المُذلّ مؤلم، لكنّه يتوافق مع خنوعها لإراداتٍ، تريد عبرها تحقيق هدفٍ، يبدو في نظر الآخرين أنْ لا معنى كثيراً له.
الموقف البارد للمنخرطات في رياضة كمال الأجسام، يُقابله منهنّ فعلٌ، يتحدّى ويُعارض صراحةً أنماطَ عيشٍ رسّخت تفوّقاً ذكورياً، تؤشّر عليه شهادات بطلات سابقات شاركن في الوثائقي: إيستر نيميت، ويفتي بالا، نومي سابو وإيستر تسونكا، بطلة "جنتل"، المعروض في قسم "آفاق"، في الدورة الـ56 (1 ـ 9 يوليو/تموز 2022) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي". النساء الأربع دخلن التجربة بحثاً عن معنى شخصي أكبر، مع إدراكهنّ الثمن الكبير الذي ينبغي عليهنّ دفعه، نفسياً وجسدياً.
هذا التحدّي لا وجود له في الروائي. فأيديا، بقبولها تعليمات مُدرّبها، تقبل بتحوّلها إلى عارضة جسد، لرجال يعاملونها كبائعةٍ له لا أكثر. التحوّل الدراماتيكي الوحيد في هذا السياق يأتي مع تعرّفها إلى رجلٍ، كان يطلب منها، في لقاءاتهما، مُلاعبته كطفل. أحبّته، ونست كلّ عذاباتها مع مُدرّبها، وقسوته. صدّقت أنّ وجوده يسدّ عندها نقصاً عاطفياً. الفراغ العاطفي والإحساس بمراراته يصلان إلى المُشاهد، عبر بوح ومونولوغات داخلية صريحة للمشاركات في الوثائقي. الحزن يغلب على نبرتهنّ، ما إنْ يصل الكلام إلى نقطةٍ تتطلّب كشفاً لرغبات، تتوق إلى مُعاملة الآخرين لهنّ كنساء سويات، لا كجبال عضلية مشوّهة، أو كما تقول إحداهنّ: "بتكوّني الجسماني هذا، صرت أشبه ضفدعة".
البحث عن سوية تتعارض مع اشتراطات رياضةٍ، جوهرها الخروج عن مقاييس الوجود الأنثوي، وتضع إيديا في دوامة قلق، تتّسع كلّما تقرّبت من الرجل الذي أحبته. نهاية حلمها الرومانسي، المنقول بمشاهد فانتازية رائعة، تحدث حين يطردها الرجل من بيته الذي دخلته خلسة، ووجدته مع عائلته يعيش حياة مختلفة عن تلك التي يمضي ساعاتٍ منها بصحبتها. طرده لها دمَّر ما تبقّى من حياتها، وسَهّل عليها تقبّل فكرة موتها، بتناولها مزيداً من المُكمّلات الغذائية والهورمونات المسبّبة أعطاباً جسدية.
مشهد ظهورها في بيت والدها، وهي تحتضن خنزيراً يُطلقون عليه النار قبل ذبحه، يتماهى مع يأسها، ويُقارب احتمالات موتها. في "جمال الوحش"، تظهر بين المشاركات لاعبة سابقة، تتحدّث عن تجربة إنجابها طفلة ثانية، وهذا يتعارض مع اشتراطات اللعبة. مشاركاتها في مسابقات دولية ما عاد يعني لها شيئاً، في مُقابل أنْ ترى نفسها أمّاً للمرة الثانية.
في الفيلمين، اللايقين من نتائج المغامرة الرياضية جَليّ، ويعكس قلقاً من تحدٍّ أكبر من أنْ تتحمّله أعصابهن وأجسادهن، رغم كل ما فيهنّ من صلابة. نقل حالة القلق واللايقين من جدوى التجربة مُجسّد باشتغالٍ سينمائي، لافتٍ في تجديده وبحثه عن تعابير بصرية حداثوية. هذا متأت من اشتغال آنا نيمز في التصوير الفوتوغرافي، المُنعكس حسّه البصري في وثائقيّها، المُشكّل أغلب سرده من لقطات مقرّبة من الوجوه، التي تحرّكها، توليفاً، بسرعة، تُضعف بها تركيز المُشاهد على المتغيّرات الحاصلة فيها، جرّاء حمل الأثقال، رغبةً منها في عرضها متشابكة مع المونولوغات الداخلية لبطلاتها، الراغبات في مصارحة أولئك الذين يعاملوهنّ كنساء شاذات عن الأعراف الجمالية، المتعارف عليها لجسد المرأة.
في المعنى العميق للنصّين، هناك رغبة صريحة في عرض مشهد أنثوي مُختلف، يتعارض بقوّة مع المفاهيم التقليدية عن العلاقة بين المرأة وجسدها، وبين جسدها وحريتها، الناشدة تكاملاً مجتمعياً حقيقياً، لا كمالاً وهمياً.