استخدم البشر القدماء كهفاً في جنوب إسبانيا، كلوحة لأعمالهم الفنية، وكمكان للدفن لأكثر من 50 ألف عام، وفقاً لدراسة جديدة نشرت في الأول من يونيو/حزيران الحالي، في مجلة PLOS ONE. في هذه الدراسة، قدم المؤلفون نتائج الحفريات الأولى في الكهف، والتي سلطت الضوء على تاريخ الثقافة البشرية في شبه الجزيرة الأيبيرية.
يشتهر كويفا دي أرداليس Cueva de Ardales، في مدينة مالقة الإسبانية، باحتوائه على أكثر من ألف لوحة ونقوش رسمها الإنسان الذي عاش في فترة ما قبل التاريخ في غرب أوروبا، بالإضافة إلى القطع الأثرية ورفات البشر التي عثر عليها في الكهف. ومع ذلك، فإن طبيعة الاستخدام البشري لهذا الكهف لم تكن مفهومة بشكل جيد في الدراسات التي أجراها الباحثون خلال العقود الماضية.
اكتشف الكهف عام 1821، بعد زلزال أدى إلى لفت النظر إلى المدخل الذي يؤدي إليه. لكن، منذ ذلك التاريخ، كانت الطريقة التي استخدم بها البشر القدامى الكهف لغزاً. في الدراسة الجديدة، تعاون باحثون في علم الآثار، من جامعات في إسبانيا وألمانيا والدنمارك، لتحليل اللوحات والآثار والعظام البشرية التي عُثر عليها في الكهف.
عن طريق الجمع بين التأريخ الإشعاعي (قياس وجود العناصر المشعة مثل الكربون 14 لتحديد عمر البقايا) مع تحليلات أخرى للمصنوعات اليدوية من الموقع، حدد الباحثون أول السكان الذين عمروا الكهف، والذين وصلوا إليه منذ أكثر من 65 ألف عام. ويُعتقد أن هؤلاء السكان الأوائل كانوا على الأرجح من إنسان نياندرتال.
ظهر إنسان نياندرتال في أوروبا خلال العصر البليستوسيني الأوسط في نفس الوقت الذي كان فيه شقيقه إنسان دينيسوفان ينتشر شرقاً في آسيا. أما في جنوب أفريقيا، فانتشر نوع هومو ناليدي، قبل أن يظهر الإنسان الحديث في أفريقيا قبل قرابة 300 ألف عام. وتظهر الدراسات بوضوح أن إنسان نياندرتال كانت لديه القدرة على إدراك وإنتاج الكلام البشري، ما ينفي الفكرة القائلة إن إنسان نياندرتال كان أكثر بدائية من البشر المعاصرين. في السنوات الأخيرة، تُظهر مجموعة متزايدة من الأدلة أنهم كانوا أكثر ذكاء من ما افترضنا في السابق، وقد طوروا التكنولوجيا، وصنعوا الأدوات، وابتكروا الفن، وأقاموا الجنازات لموتاهم.
جاء البشر المعاصرون لاستخدام الكهف بعد قرابة 30 ألف عام. يتزامن هذا الإطار الزمني مع اختفاء الإنسان البدائي منذ نحو 40 ألف عام. استخدم الإنسان العاقل الكهف بشكل متقطع حتى وقت قريب مع بداية العصر النحاسي، منذ سبعة آلاف عام.
وأوضح أستاذ التاريخ والآثار في جامعة قادس الإسبانية، خوسيه راموس مونيوث، أن أهم ما توصلت إليه هذه الدراسة، هو أنه عند حفر منطقة المدخل بمستويات تاريخية تعود إلى نحو 58 ألف سنة قبل الميلاد، وثق الفريق التكنولوجيا النموذجية لمجتمعات الإنسان البدائي، عبر شظايا من المغرة، جنباً إلى جنب مع المساحات المرسومة من الزخارف القديمة، المتمثلة في النقاط، والخطوط، والبقع.
وأضاف مونيوث في تصريح لـ"العربي الجديد": "تؤكد الحفريات والدراسات التي أجريت في كويفا دي أرداليس أنها كانت موقعاً لسلوك رمزي متكرر من قبل مجموعات بشرية مختلفة لأكثر من 58 ألف عام. في العصر الحجري القديم، دخل إنسان نياندرتال أولاً، ثم دخل البشر المعاصرون الكهف لصناعة الفن الصخري".
عام 2018، توصل الباحثون إلى أن تأريخ اليورانيوم والثوريوم للقشور الجيرية، التي تغطي بعض اللوحات، كان له تسلسل زمني لأكثر من 60 ألف سنة. في ذلك الوقت، كان السكان الذين يحتلون هذه الأراضي في جنوب شبه الجزيرة الأيبيرية مجتمعات إنسان نياندرتال.
يعتقد المؤلفون أن الفن الصخري مؤشر على المحاولات الأولى للبشرية لفهم العالم الخارجي. من المحتمل أن تكون قدرتنا على التخيل والتواصل من خلال اللغة والكتابة والعلوم والفن والتجريد من نتائج هذه القفزات في الثقافة البشرية القديمة. وتضم شبه الجزيرة الأيبيرية أكثر من 30 كهفاً آخر بفن صخري مشابه، ما يجعل المنطقة موقعاً رئيسياً للتحقيق في تاريخ وثقافة البشر القدامى في أوروبا.