قيل وسيقال لاحقاً الكثير في رحيل المُنتِج الموسيقي كوينسي جونز يوم الأحد الماضي، عن 91 عاماً. فعادة تزخر الأيام الأولى التي تلي رحيل شخصية عامة بنعي مكرر من نوع "ترك إرثاً عظيماً"، و"سيبقى إرثه حياً إلى الأبد". لكن في حالة كوينسي جونز تحديداً، فإن إرثه فعلاً إرث موسيقي عظيم، و"سيبقى حياً"، أقله في كل مرة نعود فيها إلى تأريخ مراحل تطوّر الموسيقى في الولايات المتحدة.
وُلد وينسي ديلايت جونز جونيور في مدينة شيكاغو عام 1933 في ظل الكساد الكبير لعائلة متواضعة، إذ كانت والدته تعاني من اضطراب انفصام الشخصية، في حين كان والده يعمل نجاراً. نشأ جونز في ظروف صعبة، إلّا أن شغفه بالموسيقى برز مبكراً عندما اكتشف البيانو في سن الحادية عشرة. في مذكراته، تحدث جونز عن التأثير الكبير الذي تركه المغني وعازف البيانو الشهير راي تشارلز على مسيرته، واصفاً لقاءه الأول به بـ"النعمة" التي قادته إلى عالم الموسيقى.
هنا، في هذا العالم تحديداً، تخطى جونز كل التصنيفات الممكنة، فعند استعادة سيرته التي امتدت لسبعة عقود، يصعب حصر إنتاجه في قالب أو نمط موسيقي معيّن، إذ عمل كل فرع من فروع الموسيقى: عازف ترومبت، وملحن، ومنتج، وناشر، وموزّع، وقائد أوركسترا... وساهم في إنتاج وصناعة أعمال تنتمي إلى موسيقى الجاز، والبوب، والبلوز، والسول، والفانك، والـR&B، والديسكو، والروك، والراب.
طوال مسيرته الفنية التي امتدت لأكثر من سبعة عقود، نجح جونز في إصدار أكثر من 400 ألبوم، وحصد 28 جائزة غرامي، ليُعتبر بذلك أحد أكثر الفنانين تتويجاً بهذه الجوائز على الإطلاق. في عام 1961، كان كوينسي جونز أول أميركي من أصل أفريقي يتولى منصب إداري في مجال التسجيلات عندما شغل منصب نائب رئيس شركة "ميركوري ريكوردز"، وهو إنجاز لم يكن مألوفاً في تلك الفترة، ويعكس قوة تأثيره في صناعة الموسيقى. كما كان من أوائل الموسيقيين السود الذين نجحوا في هوليوود، فألف موسيقى تصويرية لأفلام مثل In the Heat of the Night (1967) وThe Pawnbroker (1964). وببراعته الفنية كسر الحواجز العنصرية التي كانت تحكم عالم الفن، خصوصاً في التلفزيون، فأصبح أول مدير موسيقى أسود لشبكة رئيسية عندما عمل لصالح NBC في برنامج The Cosby Show.
لم يكن تعاون كوينسي جونز مع فرانك سيناترا سوى بداية لمشوار طويل من النجاح مع كبار النجوم. فقد عمل جونز مع سيناترا بشكل منتظم، حيث ساهم في تكوين علاقة مهنية قوية معه امتدت على مدار سنوات، ما أتاح له فرصاً ذهبية للتألق في عالم الموسيقى.
لكنّ نقطة التحوّل الكبرى في مسيرته جاءت عندما التقى بمايكل جاكسون في عام 1978، فكان واحداً من المساهمين الرئيسيين في تحديد معالم موسيقى البوب الأميركي الحديث، من خلال ألبومات خالدة لجاكسون مثل "أوف ذي وول" (1979)، و"ثريلر" (1982)، و"باد" (1987). كان الألبوم "ثريلر" الذي يعد الأكثر مبيعاً في تاريخ الموسيقى العالمية (أكثر من 100 مليون نسخة)، بمثابة شهادة على عبقرية جونز في الإنتاج الموسيقي، حيث دمج بين موسيقى البوب والفانك والجاز والعديد من الأنماط الموسيقية الأخرى، وكان السبب الرئيسي في تحويل جاكسون إلى أيقونة لموسيقى البوب.
ولكن بحلول الوقت الذي وصل فيه جونز إلى جاكسون، كان قد شق طريقه بالفعل من خلال موسيقى الجاز وموسيقى البوب في أوائل الستينيات والعديد من موسيقى الأفلام، فوزّع أسطوانات لراي تشارلز، وقاد فرقة فرانك سيناترا.
ببساطة لم يتمتع سوى عدد قليل من الموسيقيين في التاريخ بمثل هذه السيرة المهنية المتنوعة والنجاح في العديد من الساحات، وبالفعل وضع بصمته على أعمال عدد كبير من أفضل الفنانين الذي عرفتهم الولايات المتحدة: مايلز ديفيس، ومايكل جاكسون، وسيناترا، وبيتي كارتر، ودينا واشنطن، وسارة فوغان، وإيلا فيتزجيرالد، وليتل ريتشارد، وأريثا فرانكلين، ودوني هاثاواي، وميني ريبيرتون، وآل جارو، ولوثر فاندروس، وشاكا خان، وجيمس إنغرام، وتاميا.
منذ بداياته المتواضعة في شوارع شيكاغو إلى تحوله إلى واحد من أكثر الموسيقيين تأثيراً في العالم، ترك كوينسي جونز بصمة لا تمحى على الموسيقى الحديثة. عمل مع فنانين من مختلف الأجيال والأنواع الموسيقية، من عمالقة الجاز إلى نجوم الهيب هوب. كان دائماً قادراً على الابتكار وتقديم شيء جديد، ما جعله مصدر إلهام حقيقي لأغلب المنتجين الموسيقيين الحاليين.
وقال عازف البيانو الشهير، هيربي هانكوك، في حديث إلى قناة "بي بي إس" عام 2001: "لقد أنجز كوينسي كل شيء. كان قادراً على استخدام عبقريته لترجمتها إلى أي نوع من الموسيقى". وأضاف: "لا يخاف من شيء. إذا كنت تريد من كوينسي أن يفعل شيئاً، قل له إنه عاجز عن فعله، وبالطبع سينجزه".
وبالفعل كان بإمكانه أن يفعل كل شيء، يفشل أحياناً، وينجح في أحيانٍ كثيرة أخرى "يجب أن ترتكب كل الأخطاء كي تتعلم، أنا شخصياً ارتكبت كل الأخطاء"، قال جونز في مراجعة لمسيرته الطويلة، لمجلة رولينغ ستون عام 2017.
لم يقتصر تأثير كوينسي جونز في الولايات المتحدة فقط، بل حظي بتقدير عالمي. خلال حياته، عاش جونز في باريس، حيث التقى بموسيقيين كبار مثل شارل أزنافور وجاك بريل، وفي عام 2014، حصل على وسام الفنون والآداب من وزارة الثقافة الفرنسية، ووصفه وزير الثقافة السابق جاك لانغ بأنه "الوصي على التقاليد والمبشر بالاتجاهات الجديدة".