لقطةٌ من "حرارة" (1995) لمايكل مان، يؤدّيها مع روبرت دي نيرو وفال كيلمر وداني تْرايْهو، تكشف عمق الصداقة الجامعة بينه وبين من يؤدّي، في الفيلم نفسه، دور نِلْ ماكالي (دي نيرو). الصداقة المقصودة نمط حياة يومية، تبدأ قبل سنين مديدة. اللقطة معنيّةٌ باتّخاذ قرار نهائي، يتعلّق بما يُفترض بها أنْ تكون "المهمّة الأخيرة": سرقة مصرف.
يقول ماكالي أشياء مختلفة عن العملية. يُخبر أصدقاءه أنّه، بعد تنفيذ هذه "المهمّة"، سيتقاعد. يلتفت إليهم، ليتأكّد من القرار النهائي لكلّ واحدٍ منهم. يصل إلى مايكل تْشَريتو. يقول له إنّ وضعه جيد، عائلياً ومالياً واستثماراً، كمن يتحايل عليه كي ينصرف عن العملية، وينجو بنفسه، ويذهب إلى حبيبته/امرأته. لكنّ تْشَريتو وفيّ لصديقه، ماكالي/دي نيرو.
هذا غير عابرٍ. إعلان نبأ رحيل توم سايزمور (3 مارس/آذار 2023) كفيلٌ بتذكيرٍ، يتكرّر في أكثر من رثاءٍ ووداع، بصداقةٍ عميقة ومتينة بينه وبين دي نيرو، الذي يجهد في تحريره من الإدمان، من دون يأسٍ أو استسلام، رغم عدم جدوى المحاولات الكثيرة. أسلوب تصوير تلك اللقطة، بل تلك اللحظة التي تجمع الصديقين في كلامٍ عفوي وهادئ وحقيقيّ، تأكيدٌ لمعنى الصداقة وكيفية عيشها، مع أنّ النتيجة مؤلمة: تْشَريتو يُقتل برصاصة من بندقية فنسنت هانا (آل باتشينو)، الضابط الذي يُطارد الفرقة، والذي لن يتردّد واقعياً (فالقصّة مستلّة من وقائع حقيقية) عن البوح بإعجابه بنِلْ ماكالي، رغم كلّ أفعاله الجُرمية.
محاولة ماكالي "إنقاذ" صديقه من إمكانية موتٍ، مع أنّ الموت حاصلٌ في أي لحظة ولا فرار منه البتّة، شبيهةٌ بمحاولات متكرّرة لدي نيرو، بهدف "إنقاذ" سايزمور من ذاك الموت نفسه. في "حرارة (Heat)"، يُقتل تْشَريتو. وبعد 28 عاماً، "يُقتل" سايزمور بسبب "تمدّد الأوعية الدموية الدماغية"، الذي يُصيبه في 18 فبراير/شباط 2023، والذي لن يتمكّن الطبّ من العثور على علاجٍ له، فتُقرّر العائلة "إيقاف حياته".
إعلان نبأ رحيله، قبل أشهرٍ على احتفاله بعيد ميلاده الـ62 (مواليد ديترويت/ميشيغان، 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1961)، يعيد طرح سؤالٍ نقديّ، يتعلّق بالدور الثاني/المُساعد لممثلٍ، يكشف مراراً قدرات أدائية، يُمكن الاستفادة منها أكثر من أنْ تُحصَر بدور كهذا، لو أنّ التحرّر من إدمان المخدّرات فاعلٌ ومتين، كما يُقال. غداة رحيله، يستعاد "تهديد" ستيفن سبيلبيرغ له، في مراحل عدّة من تصوير "إنقاذ الجندي راين" (1998): "إنْ تُمعِن في تعاطي المخدّرات، سأعيد تصوير اللقطات كلّها، الخاصة بك، مع ممثّل آخر".
ممثّلو الدور الثاني/المُساعد غير قليلي العدد، غرباً وصناعةً سينمائية عربية، قديماً وحاضراً. لائحة أعمال سايزمور، السينمائية والتلفزيونية، طويلةٌ، رغم أنّ الثانية (التلفزيونية) أقلّ عدداً من الأولى. لكنْ، يندر العثور على دور آخر له، غير الثاني/المساعد. في هذا، يُتقن تأدية المطلوب منه، مع أنّه يُتقن، أيضاً، تجاوز المطلوب منه، لإظهار ما لديه من براعةٍ وتقنياتٍ وإمكانياتٍ، تمنح كلّ شخصيةٍ مدى أوسع من المتوقّع، وأعمق من المُراد منها. كأنّه في ذلك "يثأر" من عدم انتقاله إلى واجهة المشهد (الدور الأول)، بإتقانه الإبداعي الرائع تأدية الدور الثاني/المُساعد.
أسماء عدّة ترافقه في مهنته: كاترين بيغولو، آرثر بن، إيرفن وينكلير، توني وريدلي سكوت، أوليفر ستون، مارتن سكورسيزي، مايكل باي، باري سوننفيلد، لورانس كاسدان. هؤلاء أقلّ من الأصل، فاللائحة طويلة فعلاً (أعوام المهنة: 1989 ـ 2023). بفضل سكورسيزي مثلاً، يُشارك سايزمور في أحد أجمل الأفلام، "إحياء الموتى" (1999)، الذي يبدو تصويراً سينمائياً (باهراً) لمعنى القيامة والتجدّد، في 3 أيام يمضيها مسعفان يُنقذان أناساً من الموت، أو يحاولان إنقاذهم (Bringing Out The Dead). مرة أخرى، السينما غير متمكّنةٍ من إنقاذ سايزمور من موتٍ، يبدو كأنّه يعيش معه، لحظةً تلو أخرى.
حتّى في الأفلام المنضوية في إطار "الإنتاجات الضخمة (Blockbuster)"، وعددها غير قليل، يُتقن توم سايزمور كيفية منح الشخصية فاعلية وجودها في الحيّز المطلوب لها، مانحاً الحيّز (والشخصية أيضاً) حيويةً بصرية، تُبرز بعض ما لديه من براعة أداء، يُحافظ على عفويةٍ وسلاسةٍ، أو هكذا يبدو، على الأقلّ.
رغم هذا، يبقى توم سايزمور أحد أبرز صانعي جماليات الدور الثاني في السينما الراهنة.