ربما علينا، ونحن في ذبالة سنة 2023، أنْ نستحضر فيلم "سينما باراديزو" (1988) لجوزيبّي تورنَتوري، ليس للنبش المعلوماتي، بقدر إعادة النظر في علاقتنا مع الأفلام، كرفيق ثقافي يشارك بطريقة ما في هدم سلوكياتنا المعرفية وبنائها، ومنها عواطفنا وانحيازاتنا الأخلاقية.
في هذا الفيلم، يختبر تورنَتوري علاقتنا بالأفلام، عند نقطة تقاطع شغفنا مع حكاياتها التي نبصرها (بمعنيي البصر والبصيرة)، إذْ أرست الأفلام وتفرّعاتها الإبصارية سياقاً تربوياً يقتضي الاستمتاع بالإصغاء، وهذا ما نبدو نحن باحثين عنه الآن، متمنّين أنْ يستمر. فما خبرناه من مُشاهدة الأفلام جعلنا نعتقد أنّ السينما (فيلم، صالة، جمهور) صيغة المتعة المتكاملة لهذا النوع من التلقّي. لكنّ هذا النوع بدأ بالتراجع، لصالح الشاشات الأقل جماعية، ولم تعد "الصالة" مصدراً للتغنّي بالحوارية الاجتماعية التي كانت تحصل كنتيجة للمُشاهدة، بمعنى التأثير المعيشي لمُشاهدة الأفلام.
اليوم، عند مرورنا أمام أبواب صالات السينما المغلقة، أو حين ندخل المحلات التجارية التي كانت صالات سينما سابقاً، نُحسّ بحسرةٍ، رغم استبدالنا، نحن أنفسنا، الشاشة الكبيرة بشاشات أصغر وأقل اجتماعية (بمعنى ما قبل الإنترنت). لكنّ حسرتنا نفسها تبدو حائرة في بحثها عن "زمن جميل" لا يُمكن التمسّك به، نظراً إلى شروط الحياة المُحدثة. ربما كان "سينما باراديزو" حسرة طائشة، تحوّلت إلى حكاية سينمائية خلاّبة.
عام 2023 لم تعد هناك أفلام استثنائية، مهما عَظم شأنها. لا شكّ أنّ أفلاماً عظيمة صُنعت في الحقبة الماضية، وصبّت جمالياتها في حصيلة هذا العام الأخير. لكنّ اللافت للانتباه كامنٌ في فقدان ذاك التفاعل الجمعي مع الفيلم، رغم كثرة المهرجانات السينمائية، وكذلك كثرة التعليقات المختَصَرة على صفحات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى التناقل الشفهي الذي ينصح بعناوين أفلامٍ شوهدت وتَمّ الرضا عنها فردياً.
إلاّ أنّ نشوات كثيرة ذهبت أدراج الرياح، كعتمة الصالة، والمُشاهدة الجماعية، والتركيز الفردي، وتقاليد الذهاب إلى صالة السينما، إلخ. معها، ذهب إلى الأبد حوار: هل "ذهبت" وشاهدت الفيلم الفلاني في الصالة الفلانية؟ ليحلّ محلّها: شاهدتُ فيلماً رائعاً على المنصّة الفلانية، شَاهِدْه لأنّه رائع. "غالباً" ينتهي الحوار عند هذه "الحقيقة".
شخصياً، أرى في ذلك مشكلة. فقصديّة المُشاهدة في الصالة تجعل الفيلم كياناً وهيئة يمكن التعامل معهما كجهدٍ بشريّ حيّ وخلاّب. لا أريد قول العكس عند مُشاهدة فيلمٍ على شاشتي التلفاز أو الكومبيوتر، لأنّ ما أريد قوله كامنٌ في أنّ النتائج مُختلفة بين الحالين، فالبنية الإعلامية الإعلانية ضخمة في الحالة الجديدة للمُشاهدة، مقابل الحالة القديمة التي تبدو لي بنيتها أكثر فنيةً، ما يؤدّي إلى تأثير مختلف، تختلف معه السلوكيات الناتجة من التلقّي الفنّي. في الحالتين، لا نستطيع الجزم أيّهما أفضل، أو أيّهما تجب المحافظة عليه. فالسينما أدبٌ حداثيّ، لا يستطيع التوقّف عند أيّ شكل أو مضمون من دون تحديث.
ربما كان اللبناني "هردبشت" (2023)، لمحمد دايخ، نموذجاً عن المقصود في السياق السابق. طبعاً، هناك أفلامٌ لبنانية أخرى، لكنّها لا تندرج في التصنيف "الشعبي" نفسه لهذا الفيلم الذي يُعيدنا إلى سياق الحاجة إلى المُشاهدة، وطريقة تسويقه جذبت الجمهور إلى الصالة المعتمة، رغم انفصال الصالات اللبنانية عن الجمهور بالمعنى الاقتصادي. فتذكرة الدخول باهظة الثمن بالنسبة إلى هذا الجمهور، ومع هذا يُمكننا القول إنّ العمل استطاع الاقتراب من مُعادلة "فيلم ـ صالة ـ متلقّي"، وهذا بالنسبة إليّ نوعٌ من النجاح السينمائي المحبّذ، ليس لإشباع نوستالجيا قائمة على توهّم زمن جميل مضى، بل لأنّ فنّه يعطي أملاً للعروض السينمائية كي تكون في صالات أقلّ تكلفة وأوسع جمهوراً، ما يعطي فرصة للتفاعل الاجتماعي مع الإبداع.
هذا، بحدّ ذاته، قيمة كبيرة. طبعاً، الأمل ليس كبيراً، رغم توفّر هذه الخدمة السينمائية في بلدان كثيرة، ما يعنى توفّر نموذج ناجح للصالات المحلية الصغيرة، ولنجاحها في التواصل السينمائي بالمعنى الآنف أعلاه.
من جهة أخرى، يبدو أن "هردبشت" استطاع تحقيق معادلة "فن ـ جمهور". فحكايته شديدة المحلية، وملتصقة بالذاكرة القريبة جداً للعيش اليومي للإنسان المحلي الذي يُقابله إنسانٌ عالميّ، يحتاج إلى الحاجات المعيشية نفسها، رغم اختلاف البلدان، إذْ يبدو أنّ صنّاعه قبضوا على وصفة ناجحة لا تحتاج إلى التكرار طبعاً، مع أنّها تحتاج بشدّة إلى إعادة المحاولة بأفلامٍ جديدة، للاستفادة من هذا " النجاح" في إعادة الاعتبار لمُشاهدة الأفلام.
في 2023، كنا أمام منظر مُحيّر، وربما شائك، بخصوص مشاهدة الأفلام. فتذاكر الدخول إلى الصالات غالية، وبعيدة بالمكانة عن "الشعب". هناك فقدان شديد للدعاية للأفلام، ولتكريس النجوم. هذا كلّه تعبيرٌ عن مظاهر موت دُور السينما ودَورها. في المقابل، هناك فوران بالمشاهدة عبر الإنترنت، واستهلاك عالي الوتيرة لمنتجات منصّات بثّ الأفلام، إضافة إلى سيل من المعلومات عن هذه الأفلام، وعن كواليسها ونجومها وميزانياتها وطرق تنفيذها. هذا يضعنا في حالة انعزالية فردانية مع الأفلام التي نشاهدها، ويعاكس (برأيي) سبب وجود السينما نفسها. فهل تبقى السينما هي نفسها في الحالتين؟
مع إعادة النظر في "سينما باراديزو"، ومقارنته بالواقع الحالي، ومع أمنيات صنّاع "هردبشت"، نرى أنفسنا أمام تعريف آخر للسينما والأفلام، يختلف عنها، كما أسّست لنفسها. لكنّها أيضاً، وبسبب ولادتها التكنولوجيّة، ستخضع لقوانين التكنولوجيا، وتذهب في سياقها كالماء في المنحدرات، تاركة الاعتبارات الحسّاسة في مستقرّها الجميل، لصنع متلقّي ـ زبون مُتّسق مع جموح الحياة الرقمية، ولا عزاء للنوستالجيين.
بالنسبة إليّ، في ذبالة هذا العام، لم أعد أستطيع اعتبار نفسي مُتابعاً سينمائياً من دون الإنترنت ومنصّات البثّ. فالذهاب إلى صالة سينما فارغة إلا من عددٍ شحيح من المُشاهدين أصبح عبئاً، لستُ راضياً باحتماله.