استمع إلى الملخص
- ويلهلمينا، ولدت في سانت أندروز عام 1912، وواجهت معارضة والدها لطموحها الفني، لكنها وجدت دعماً في سانت آيفز، وزيارتها لسويسرا عام 1949 ألهمتها لإنتاج أعمال فنية لعدة عقود.
- الفيلم مقسم إلى خمسة عناوين فرعية، أبرزها "عقل ويلي"، ويستعرض عشقها للرياضيات والأرقام، لكنه يفتقر لتقديم الجوانب الإنسانية لشخصيتها بشكل كافٍ.
في جديده، "لمحة مفاجئة لأشياء أعمق"، حاول المخرج الوثائقي الإيرلندي المتميّز مارك كازينز، بصدق وإخلاص، إعادة الاعتبار إلى التشكيلية الاسكتلندية ويلهلمينا بارنز ـ غراهام، بتسليطه ضوءاً على أعمال فنانة لم تلقَ انتباهاً واهتماماً وتكريماً كثيراً في حياتها، ولا بعد وفاتها قبل عقدين، عن 91 عاماً.
يُعتبر "لمحة مفاجئة إلى أشياء أعمق"، الفائز بـ"الجائزة الكبرى" في مسابقة الدورة الـ 58 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/تموز 2024) لـ"مهرجان كارلوفي فارى السينمائي الدولي"، من نوع المقالة الإخبارية، التي تتحدّث عن فنانين عظماء منسيين، يستحقون إعادة اكتشافهم. إنّه رؤية بصرية وجمالية، جديدة وفريدة ودافئة، لأعمال فنانة مجهولة، وتعريف الجمهور بها، وبشذرات من حياتها، والتوقّف عند محطات متفرّقة في مسيرتها المهنية والفكرية، من دون التعمّق كثيراً في الذاتي والشخصي والإنساني.
بعد المُشاهدة، يتكوّن اطّلاع وإلمام بالفنانة، وبتفكيرها واشتغالها، وربما يحدث إعجاب بأعمالها. مع ذلك، هناك جهلٌ بكثير مما كانت عليه حياتها وواقعها ومسيرتها، هي المعروفة بـ"ويلي"، الاسم المحبّب لها، الذي استخدمته لتُخفي ماهيّتها كأنثى تُمارس الفن التشكيلي. ففي أربعينيات القرن الـ20 وخمسينياته، لم يكن العالم يرحّب كثيراً بممارسة الأنثى لهذا الفن، خصوصاً إذا كان تجريديّ الطابع.
ولدت ويلي في سانت أندروز عام 1912، لعائلة نبلاء. والدها مستبدّ للغاية، عارض بشدّة طموحها في أنْ تصبح فنانة، وهذا سبب تركها المنزل، وانتقالها إلى سانت آيفز، عام 1940، هرباً من عائلتها. هناك، وجدت مجتمعاً من الفنانين ذوي تفكير مماثل. على حياء، بدأت تشقّ طريقها بصمت، من دون الطموح في أيّ شيء، خلا ممارسة فنّها. لكنْ، كما يقول كازينز، اللحظة الأعمق والأكثر تغييراً في حياتها حدثت في زيارتها لسويسرا، عام 1949، عندما تسلّقت جبل غريندلفالد الجليدي. أذهلتها المناظر الطبيعية، وأمدّتها بإلهامٍ لعقود عدّة.
حاول كازينز إظهار تأثير الرحلة على إنتاجها الإبداعي، باستعراض أغلب لوحاتها المنفّذة بين عام 1951 ونهاية السبعينيات الماضية. ثم استكمل استعراض أعمالها قبل نهاية الفيلم، انتهاءً بآخر لوحة لها (2002). إلى هذا، تروي تيلدا سوينتن مقاطع من مذكراتها. ويتضمن الفيلم أيضاً تسجيلات صوتية للفنانة نفسها، من دون لقطات أرشيفية مصوّرة لها. إضافة إلى ظهور لين غرين (مؤرّخة فنية ومؤلّفة سيرة الفنانة) وتعليقها الصوتي وشروحاتها اللافتة للانتباه.
يقسم كازينز فيلمه إلى خمسة عناوين فرعية، تحاول الاقتراب من شخصيتها وأعمالها. أهمها، "عقل ويلي"، حاول فيه سبر أغوار عقل هذه المرأة الملهمة، الذي (عقلها) كان أساساً المدخل إلى فنها وعالمها. المثير للانتباه عشقها الغريب للرياضيات والأرقام والحروف، والنظام الذي ابتكرته لربط الألوان والحروف والأرقام، وتنفيذ لوحات بناءً على هذا الربط، في خطوة تجريدية وغريبة وجامحة.
من ناحية أخرى، لسبب أو لآخر، صرف كازينز النظر عن تقديم الفنانة كشخصية إنسانية ذات جوانب مختلفة. يمرّ أمام محطات مهمّة في حياتها، من دون التوقف عندها ملياً، ما يجعل المُشاهد يتمنّى لو أنّه استخدم معلومات سيرتها الذاتية بالبراعة نفسها لاستخدامه وتوظيفه لوحاتها وصُورها ومخطوطاتها ودفاتر مذكّراتها. اكتفى بالحديث شذراً عن والديها الصعبين والقاسيين، وتحوّلها لاحقاً إلى البهائية، وأفكارها عن حركة تحرير المرأة، ورفيقيها (زواج قصير الأمد من ديفيد لويس، ورفقة مع روان جيمس).
كعادته في أغلب أفلامه، خصوصاً لمن يتابعها ويألفها، ولا سيما تلك المهمّة للغاية عن تاريخ السينما والأفلام والمخرجين (أورسون ويلز وألفريد هيتشكوك وغيرهما)، لا يدهش كازينز بانخراطه في سرد روائي، وتورّطه في حبّ الشخصية وأعمالها، واستحواذه على التعليق الصوتي الممتد في الفيلم، رغم استعانته بصوت سوينتن، وإنْ كان انتقاله إلى تناول الفنّ التشكيلي لا يُقارن باحترافه في تناول السينما وتاريخها وروادها.
مقارنةً بأفلامه السابقة أيضاً، يمكن التشديد على أنّ ليس كلّ ما تضعه في فيلمٍ ينجح ويصنع مفعولاً. مثلاً: مقطعٌ يشعر فيه بالقلق من أنّ لوحةً لويلي، اشتراها له صديقه في مزادٍ، مزيّفة؛ علاقة الوشم الرقمي على يده، وكيف كانت ويلي ستُحبّه، أو وشمه في نهاية الفيلم للوحة لها على كتفه. صحيح أنّ فنّها المُهمّش، بشكل غير عادل، يستحق الاحتفاء، لكنّ كازينز لم يقرّب المُشاهد من هذا بشكل كبير ومقنع. ففي النهاية، يصعب على غير متذوّقي الفن التجريدي الحكم بإنصاف.
رغم مثالب أخرى، خاصة بلقطات متكرّرة من دون فائدة، وما يتعلق بالإيقاع والتشويق، وكلّها تقتطع كثيراً من الرصيد الفني لـ"لمحة مفاجئة لأشياء أعمق" ومن جمالياته، جديد كازينز ضروري جداً لتسليطه الضوء بشكل محبَّب على فنانة شبه مجهولة، ذات رؤية فنية وفكرية تستحقّ التوقّف عندها وتفحّصها.