يبدو أنّ الحاصل منذ تفشّي كورونا في العالم، بدءاً من مطلع عام 2020، سيستمرّ في فرض شروطه على الحياة والعلاقات وتفاصيل العيش، عام 2021. لا شيء يؤكّد تغلّب اللقاحات، المُصنّعة حديثاً، عليه. لا شيء يُناقض تصوّراً، مفاده أنّ المُقبل من الأيام سيختلف عن ماضٍ قريبٍ جداً يحضر كلّ لحظة بثقلٍ قاتل. صناعة السينما تقول موارَبةً إنّ تغيير الحاصل صعبٌ، واستعادة نمطٍ سابق على كورونا أشبه بالمستحيل، رغم رغبةٍ لديها تُناقض قولاً كهذا. صناعة تتأقلم مع واقعٍ، لحاجتها الماسّة إلى عدم الغياب طويلاً، فهذا مَقتلٌ لها، وإلى كسر حدّة الحصار المفروض عليها، إنتاجاً وتوزيعاً وعروضاً ومشاهدةً ومهرجانات، والكسر يتمثّل أساساً بالعمل، وإنْ وفق متطلّبات السلامة العامة وقواعدها الصارمة، مع ما يؤثّر ـ ولو قليلاً ـ على مسار الاشتغال الإنتاجي، الذي ترتفع ميزانيته لهذا السبب.
هذا واضحٌ تماماً. بانتظار إعادة فتح أبواب الصالات السينمائية في العالم، تفتح الاستديوهات أبوابها أمام مشاريع يُراد لها أنْ تُنفَّذ في أي حالٍ من الأحوال. بانتظار معرفة مصائر دورات العام الجديد (2021) لمهرجانات مختلفة، تؤكّد منصّات عدّة غلبتَها، وإنْ المؤقّتة، على الصالات أساساً، وعلى شركات توزيع، بـ"إخضاعها" لاتفاقات يراها موزّعون كثيرون ضرورية لنشر أعمالهم، وإنْ بحسب مطالب المنصّات، ورغم ارتباك مُشاهدين سينيفيليين، وتوتر سينمائيين، وهؤلاء جميعاً يريدون للأفلام عروضاً طبيعية على شاشات سينمائية.
حفلات توزيع الجوائز السينمائية، التي يُفترض بها أنْ تبدأ قريباً، غير مطمئنّة كلّياً إلى أنّ الأمور ستكون عادية فعلاً. المشرفون عليها يضعون أكثر من خطّة بديلة، والـ"أونلاين" أوفر حظّاً، لأنّه الأسلم والأكثر أمناً. "سيزار" الفرنسية تريد خلاصاً من خلل فظيع حاصل في إدارتها العام الفائت، لكنّ كورونا يحول دون تمكّنها من الخروج الآمن من فوضاها إلى إعادة الاعتبار لحضورها، التاريخي والفني والثقافي، في السينما الفرنسية. "أوسكار" هوليوود ينتظر، كـ"بافتا" (بريطانيا) و"غويا" (إسبانيا) وغيرهما.
المهرجانات أيضاً. الـ"برليناله" يلجأ إلى الـ"أونلاين"، و"كانّ" يريد دورة واقعية، بعد إلغاء دورة العام الفائت، فيُحدّد مطلع الصيف موعداً لها، مع التفكير ملياً ببدائل. "فينيسيا" يتفوّق على المهرجانات كلّها، ففي إيطاليا، أكثر البلدان إصاباتٍ وحالات وفاة في البدايات الأولى لتفشّي كورونا على الأقلّ، تُقام الدورة الـ77 للمهرجان في موعدها المحدّد سلفاً (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020)، بالتزام صارم بمعايير السلامة الصحية والتباعد الاجتماعي. رغم هذا، تُحقّق الدورة نجاحاً مهمّاً، يعترف به كثيرون. لكنْ، ما من مهرجان يتجرّأ على المخاطرة مثله. في الوقت نفسه، ما من مهرجان يريد إلغاءً أو دورة افتراضية، وإنْ تستسلم مهرجانات إلى الافتراضي، غصباً عنها. إنّه الارتباك الكبير.
كلّ البدائل مقبولة. كثيرون يريدون السينما، وإنْ تُشاهَد أفلامها في "غرف المعيشة"، كما في قولٍ ليوناس هولمبَري، المدير الفني لـ"مهرجان غوتنبرغ السينمائي الدولي". نقّادٌ يتشوّقون إلى المهرجانات الدولية، ففيها متعٌ تخرج من صالة العروض إلى المساحات الشاسعة للتسكّع والنمائم والسهرات، بعد يومٍ حافلٍ بالمُشاهدة والنقاش والاشتغال المهنيّ. لكنّ نقاداً آخرين يرون في العزلة المنزلية أفضل وسيلة لمُشاهدة مريحة وآمنة، طالما أنّ مهرجانات عدّة تُتيح لهم متابعة يومية لدوراتها الافتراضية.
العالم مرتبك. أزماته تزداد، وتأثيراتها السلبية خانقة. السينما تُلملم بعضاً منها، يُسقطه كورونا بضربات موجعة لكنّها غير قاضية. الناس خائفون وقلقون، لكنّهم توّاقون إلى حياةٍ تُسرَق منهم، والعجز عن إنقاذها من الخراب مُقلقٌ. القلق الأكبر متأتٍ من حالةٍ أخرى: رغم فظائعه في الجسد والروح، يعجز كورونا عن تغيير سلوكٍ ونمط تفكير لدى كثيرين. كأنّ كورونا غير ماثلٍ في يومياتهم. كأنْ لا وباء ولا انهيارات ولا أسئلة عن مغزى الحياة وشكلها، وعن معنى العلاقات ومفرداتها، في ظلّ فيروس ينقضّ بوحشية على كائنات بشرية، ويُمعن استهزاءً بها، بابتكاراته المخيفة في التحوّل والتجدّد، بينما كثيرون غير قابلين لتحوّل إيجابي في حياتهم، ولتجدّد يُبدِّل مسالك وتصرّفات وأفكاراً.
بعد أسابيع عدّة على التفشّي المخيف لكورونا في العالم، يقول ديفيد لينش إنّ الطبيعة تهزّ كيان الإنسان، لتُخبره أنّ خَطراً يحدث، وأنّ عليه التنبّه إلى خرابٍ أفظع سيأتي، إنْ يستمرّ في علاقته السلبية بها. لاحقاً، يُبدي لينش تفاؤلاً. يكتب (المجلة الشهرية الكندية Vice، في 9 إبريل/ نيسان 2020): "ستغدو الحياة أفضل. سيستمتع الناس بكونهم أحياء. ستُصبح صورتهم عن أنفسهم أكبر وأوسع. ستتحسّن علاقاتهم برفاقهم ورفيقاتهم في الإنسانية". يُكمِل تأمّلاته: "ستغدو الأمور ألطف وأكثر روحانية. سيكون هناك عالم مختلف، أكثر ذكاءً بكثير. سنصل إلى حلول. ستغدو الحياة جميلة جداً. ستعود الأفلام. ستُزهر الأشياء كلّها مرّة أخرى، بصورة أبهى بكثير على الأرجح".
قبل أيام (24 يناير/ كانون الثاني 2021)، يقول دنزل واشنطن أمراً مختلفاً (وكالة "فرانس برس"). يربط بين وباء كورونا و"سفر الخروج" (العهد القديم)، الذي يتحدّث عن الطاعون، وعن إنزاله بالناس، وعن دفعهم إلى "الخِيَم" بسببه: "اليوم، يُعيدنا كورونا مُجدّداً إلى الخِيَم". لكنّه يُحذِّر: "عدم انتباهنا واعتنائنا بالناس، نساء ورجالاً، بعد خروجنا من الخِيَم؛ وعدم تعاملنا معهم بشكلٍ أفضل من قبل، وكما نريد أنْ نُعامَل، سيُدمِّرنا جميعاً".
كلّ شيء ملتبس وغامض. الأفقٍ غير واضح. الضباب كثيف. العتمة قاتلة، فهذه غير شبيهةٍ بعتمةٍ ينتظر كثيرون استعادة التواصل معها، في صالاتٍ تُضيء بها أصلاً.
لكنْ، كيف سيكون العالم بعد كورونا؟ كيف سيتصرّف الناس، بعضهم مع بعضٍ، بعد جلاء الوباء؟ أيكون مُشمِساً (لينش) أم دماراً كثيراً (واشنطن)، كتلك المساحات الرمادية الفارغة والمخيفة، وأطلالها المرعبة، وأبنيتها المتبقية الآيلة إلى سقوطٍ مدوّ، يُشبه سقوط الإنسان لشدّة أحقاده وأنانيته وعبثه بكلّ شيء، كما في "كتاب إيلاي" (2010) لألبيرت وآلن هيوز، مع واشنطن في الدور الأول؟