اقتضى درب أم كلثوم ارتقاءً نحو تسيّد المشهد الغنائي المصري والعربي منتصفَ القرن الماضي، الاستجابة إلى روح العصر السائدة في بداياته. إبان عهد الملكية المتأخر، دلّ الانفتاح على مظهر التعددية الثقافية في كل من القاهرة والإسكندرية على تبلور التوجه الحداثي للأسرة العلوية (1805-1952)، ابتداءً بالمؤسس محمد علي، ومروراً بالخديوي إسماعيل.
في العشرينيات وحتى الأربعينيات، وبينما بدت عواصم أوروبا مدن أشباح وموتى إثر حرب عالمية أولى، تلتها ثانية أشد فتكاً ودماراً، راقت الحياة الثقافية والفنية في مصر، ما حدا بموسيقيين من مختلف الجنسيات أن يأتوا إلى القاهرة والإسكندرية للعيش في أمان وحرية. من أولئك، عازفا جاز أميركيان من أصل أفريقي، بيلي بروك وجورج دونكان. من حي الأزبكية القاهري، ملاذهما الآمن من مآسي الفصل العنصري في الولايات المتحدة، كتبا رسالةً نشرتها صحيفة ذا دفندر الأميركية (The Defender) سنة 1920، وصفا المشهد من حولهما بعنوان عريض: "مصر بلدٌ يملكه المصريون، ويحكمه الإنكليز، فيما الكلّ فيه يفعل ما يحلو له".
انعكس ألق القاهرة والإسكندرية بوصفهنّ حواضر كوزموبوليتية مستقرة ومتحررة جنوبَ حوض المتوسط على الحياة الاجتماعية والثقافية في مصر ومجمل العالم الناطق بالعربية حتى تركيا. نشطت الصناعة السينمائية، وبالأخص الغنائية. هُيّأ لها أفضل النجوم، وُظّفت لها أفضل الألحان، واشتغل فيها أكفأ الفنانين والفنيين من مصر والشام واليونان وإيطاليا ودول شرق ووسط أوروبا. من رحم ذلك، انبثقت ذائقة فنية عصرية لدى أبناء الطبقة الوسطى، ممن سُمّوا بالأفندية، سمحت بانكشاف التراث الموسيقي العربي على الموسيقى الكلاسيكية الغربية، الجاز وموسيقات الشعوب الأخرى المجاورة والبعيدة.
كان الملحن المصري محمد القصبجي (1892 - 1966)، بعد سيد درويش، أول من اغتنم المزاج الكوزموبوليتي العام، ليقدم مشروعاً موسيقياً نوعياً عبر صوت أم كلثوم بصورة رئيسة، يخلع عنه عباءة الإنشاد التقليدي السميكة، ويُلبسه ثوباً تجديدياً أكثر رقّة ورشاقة، يستجيب لمزاج جيل "الأفندية". شكلاً، وبشراكة من رفيق دربه، كاتب كلمات الأغاني الشاعر أحمد رامي (1892-1981)، اعتمد مشروعه تطوير كلّ من قالبي المونولوج والطقطوقة، ليتّفقا من حيث القوام والأمد مع متطلبات صناعة التسجيلات المطبوعة على أسطوانات. تلحيناً، أبدى القصبجي موهبة ودربة وشجاعة منقطعة النظير، باحتضانه الإسهاب في الانتقال بين المقامات، والذي كان إلى زمن قريب غير شائع ولا مستحب.
"ما دام تحب بتنكر ليه"، واحدة من بين مخرجات المشروع "القصبجوي" الأكثر فرادة وجاذبية. كتب كلماتها رامي، وصاغ ألحانها القصبجي على قالب الطقطوقة لتغنيها أم كلثوم سنة 1940. تعد التحفة الغنائية نموذجاً لتلك الرشاقة الشكلية والانسيابية اللحنية التي طبعت موسيقى الحقبة. بغية الإمعان في تعزيز طابع الخفة والحركة الذي يميز شكل الطقطوقة أصلاً، تُبنى الأغنية بكاملها من ثلاثيات. ذاك أن المذهب بطبيعته يتخلله كوبليهات ثلاثة. علاوة على ذلك، كل كوبليه بدوره سيتألف من أشطر ثلاثة. التثليث من شأنه أن يدفع بالأغنية قدماً، كأنما الألحان تدور في حلقة حيوية تشحن الوجدان وتنتشل الروح. إلا أن السحر والإبداع الأشدّ أسراً، إنما يكمن في الصياغة اللحنية.
أولاً، عن طريق القفز بين نغمات متباعدة الفاصلة الموسيقية، كما الحال جليّةٌ في المقدمة اللحنية للمقطع الرئيسي، أو المذهب؛ إذ وُضعت لأجله جملة أفقية سلمية على شكل وثبات هارمونية ثلاثية وخماسية تذكر بموسيقى الشعوب الآسيوية (ملهمة الانطباعية الفرنسية). الأمر الذي لا يُضفي على الأغنية مسحة تعددية ثقافية وحسب، وإنما يُنعش أيضاً مقام النهاوند ذي الميل الطبيعي إلى الحزن. إن لفي ذلك النهج التلحيني الوثّاب مفارقة للكتابة المقامية بمفهومها التراثي القائم على التجاور النغمي الملتزم بكل من طبع المقام، أي توالي ثلاث نغمات منه، وجنسه، أي أربع، وعقده أي خمس.
يرتقي القصبجي بفن الانتقال المقامي إلى مستوى لعل الأذن الشرقية لم تعهده من قبل. فمن دون أن يُمعِن في الهرمنة، أي تزويد اللحن الأفقي بتوافقات نغمية عمودية، محافظاً بذلك على الطابع الشرقي الأفقي؛ يبقي على أصداء هارمونية عبر الانتقالات والنغمات العابرة. كأني باللحن وقد هُرمِن، إنما بصورة مستترة. الأمر الذي يُكسب اللحن بُعداً مخفياً، يحجب مكامن التعقيد فيه، ما يدفعه إلى التحليق بخفة فراشة تطير من زهرة إلى زهرة.
من مظاهر الإسهاب، التنوع المباغت بين المقامات المستخدمة. فيما يبقى النهاوند، بوصفه المقام الرئيس، المرسى والمرساة، إليه تتجه، وبه تحلّ سائر المقامات، يقطع اللحن بحوراً ويطأ يابسات. كمقام النوا أثر والنكريز، يُضفيان مسحةً سلافية، شرق أوروبية. في حين يبقي كلٌّ من البيات والراست للأغنية، من خلال نقاط عبور سلس يؤمنها مقام الكرد، البوصلة شرقية.
السر: إسهاب بلا إسراف. على الرغم من شدة التنوع، ليس ثمة حذلقة أو تكلّف قد يقودان إلى التشتت والضياع. على الرغم من الوفرة بالأفكار اللحنية والغزارة في المعالجة المقامية والسلمية، لن تصاب الأذن بتخمة سمعية، أو تضطرب في غمرة الانتقالات الهارمونية والوصلات النغمية. ثمّ ذوق جمالي رفيع وحدسٌ موسيقي خارق للعادة، يجعل من الأغنية، رغم الغزارة في الصياغة، قادرة على صدم المستمع برشقات متتابعة من عواطف وأحاسيس متباينة، مع الإبقاء على حالٍ عضوية من البساطة والوحدة والاتساق.
"ما دام تحب بتنكر ليه"، روضة زاهية، أزهارها نهاوند وكرد وبيات ونوا أثر. ماؤها جداول من عيون ومناهل موسيقية متعددة. على سطحه انعكس ألق الحياة الكوزموبوليتية في القاهرة والإسكندرية زمان الثلاثينيات والأربعينيات. فتحت أمام أم كلثوم، ذات النشأة الغنائية المحافظة، الباب نحو جمهور جديد، منفتح ومنتعش بهوى المتوسط ونسيم النيل. ألبست صوتها الفائق حلّة "أسمهانية".