محمد الموجي... بكثير من الحنين إلى الغناء

30 يونيو 2024
رفضت لجان الاستماع اعتماد الموجي مطرباً وقبلته ملحناً (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في 1951، تحول محمد الموجي من مطرب مرفوض إلى ملحن مقبول في الإذاعة، مما دفعه للتركيز على التلحين وترك بصمة في المشهد الغنائي المصري بدعمه للأصوات الجديدة وتقديم ألحان ناجحة.
- تعاون مع عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، قدم لهما ألحانًا أيقونية في تاريخ الغناء العربي، بما في ذلك أكثر من 50 أغنية لعبد الحليم وألحان ذات قيمة كبيرة لأم كلثوم مثل "نشيد الجلاء".
- لم يقتصر إبداعه على الأغاني العاطفية والوطنية فقط، بل شمل أيضًا الأغاني الدينية والابتهالات، معبرًا عن ميله الصوفي وروحانيته، وأكد على تنوع موهبته وقدرته على التجديد في مختلف الأنماط الغنائية.

حين تقدّم محمد الموجي عام 1951 إلى اختبارات الإذاعة، رفضت لجان الاستماع اعتماده مطرباً، لكنها قبلته ملحناً. كان الفنان الشاب بحاجة إلى هذا القرار الحاسم كي يحدّد طريقه من دون حيرة أو تردّد، بعد أن مكث فترة ليست قصيرة في حالة تنازع، يجذبه حب الغناء تارة، وتشده هواية التلحين تارة أخرى، أو يرى أنه لا مانع من الجمع بين الهوايتين.

لم يكن صاحب صوت استثنائي، لكنه كان يغني، فيطرب له مستمعوه، ويمطرونه بكلمات الثناء والاستحسان، حتى إذا انتهى أمام اللجان الصارمة للإذاعة، حيث لا قيمة لإعجاب الجمهور "العادي"، جاء القرار واضحاً: مطرب لا.. ملحن نعم. ليصبح الغناء هامشياً في حياة الرجل، وليأخذ التلحين أكثر جهده ووقته، في مسيرة اتسمت في معظمها بالنجاح الجماهيري، والدفع بالأصوات الجديدة خطوات إلى الأمام، عبر عدد من الألحان التي أسهمت في رسم المشهد الغنائي المصري خلال النصف الثاني من القرن الماضي.

وفي مسيرة محمد الموجي مع التلحين، تبرز معالم كبيرة، في مقدمتها تعاونه المثمر مع عبد الحليم حافظ، الذي تعرف إليه عام 1951، ولحّن له أغنية "يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا أسمر" من كلمات سمير محجوب. وقد رفضت لجان الاستماع في الإذاعة الأغنية، لكن الرفض انقلب قبولاً بعد أن تغير أعضاء هذه اللجان.

بعدها، جاءت أغنية "صافيني مرة" التي يعتبرها أكثر المهتمين بالغناء المصري الانطلاقة الحقيقية لكل من الموجي وعبد الحليم. كان المشهد الغنائي القاهري جاهزاً لتقبّل هذا النمط من الألحان، بعد أن أصبح المزاج الجماهيري سريع التغير، ووصلت قابليته لأفكار "التجديد" و"التطوير" إلى حد الشره. أصبح كل لحن جديد اختباراً للاختلاف الذي صار هدفاً بذاته. غنى العندليب من ألحان الموجي أكثر من 50 أغنية، منها: "كامل الأوصاف"، و"حبيبها"، و"حبك نار"، و"رسالة من تحت الماء"، و"قارئة الفنجان".

لكن معايير "العدد" وحجم التعاون الفني لا تصلح عند الحديث عن أم كلثوم. نعم، لم يلحن لها الموجي إلا ثماني أغنيات، لكنها كوكب الشرق، التي يتمنى كل ملحن أن يحظى بعمل واحد تغنيه بصوتها، وتقدمه بجماهيريتها الكبيرة. وحين غنت أم كلثوم أول لحن يصوغه الموجي لها وهو "نشيد الجلاء" عام 1954، كانت في أضيق مراحل تعاونها مع الملحنين. بعد أن توقف مداد ألحان محمد القصبجي، وتفاقم الخلاف بينها وبين الشيخ زكريا أحمد.

ولم تكن بعد قد غنت لكمال الطويل الذي سيتأخر إلى العام التالي، وبالطبع لم تكن قد غنت لبليغ حمدي أو محمد عبد الوهاب. كانت في ذروة سنوات احتكار رياض السنباطي صوتها، وقد مرت خمس سنوات كاملة والسنباطي هو المصدر الوحيد للألحان الجديدة. والانتباه إلى هذه الخلفيات ضروري لفهم حجم خطوة اختيار سيدة الغناء الموجي، حتى لو كان العمل نشيداً وطنياً تبثه الإذاعة، وليس عملاً عاطفياً يتكرّر تقديمه على المسرح ضمن الحفلات الشهرية الكبرى التي تحييها أم كلثوم، وينتظرها العالم العربي كله. كان حدثاً كبيراً للغاية في مسيرة الموجي، الذي لم يجاوز حينها 31 عاماً.

تنقسم ألحان الموجي لأم كلثوم إلى ثلاثة أقسام: الأول، الأغنيات الوطنية: "نشيد الجلاء"، و"ما أحلاك يا مصري"، و"يا صوت بلدنا"، وجاءت كلها بين عامي 1954 و1957. القسم الثاني يتمثّل بأغنيات أوبريت رابعة العدوية عام 1955: "الرضا والنور"، و"حانة الأقدار". أما الثالث، فهو الأغنيات العاطفية: "للصبر حدود" عام 1964، و"اسأل روحك" عام 1970.

يرى كثير من النقاد والمهتمين بتراث كوكب الشرق أن أغنية "حانة الأقدار" تمثل الحلقة الأهم في سلسلة ألحان الموجي لأم كلثوم، وأنها تنم عن تفكير موسيقي بالغ التطور، وأيضاً بالغ التعقيد، وأن المقاطع التي خصّصها الموجي للكورال، والمقاطع التي خصّصها لأم كلثوم، صعبت الأمر على هواة تصنيف الأغنيات ضمن قالب. فهي من جهة، يمكن اعتبارها قصيدة في صورة طقطوقة، وهي من جهة أخرى، ووفقاً لمعانيها التي لا تتكرر، يمكن اعتبارها منولوجاً.

ترك الموجي بصماته على المشهد الغنائي المعاصر من خلال ألحانه التي قدمها لأشهر الأصوات الرجالية والنسائية في عصره. وكثير من ألحانه مثل محطات مهمة في حياة المغنين والمغنيات. وتمثيلاً لا حصراً، قدّم الرجل عدداً من أنجح أغنيات فايزة أحمد، ومنها: "أنا قلبي إليك ميال"، و"يمّه القمر ع الباب"، و"بيت العز يا بتنا"، و"يا تمر حنة".

ومن ألحانه لشادية، يتذكر المستمعون: "شباكنا ستايره حرير"، و"غاب القمر يا ابن عمي"، و"أصالحك بإيه". كما يتذكرون ألحانه لنجاة: "عيون القلب سهرانة"، و"ما استغناش عنك"، و"حلم الهوى"، و"الشمس مروحة". وأيضاً ألحانه لصباح: "الراجل ده هيجنني"، و"سلمولي على مصر"، و"الحلو ليه تقلان"، و"الغاوي ينقط بطاقيته". ومن أعماله لوردة الجزائرية: "عايزة أحب"، و"لازم نفترق"، و"مستحيل"، و"أهلا يا حب"، و"أكدب عليك".

محمد الموجي صاحب عدد كبير من الألحان التي اشتهرت جماهيرياً من دون أن ينتبه كثير من المستمعين إلى ملحنها، وربما يتعجب هذا المستمع حين يعرف أن الموجي هو ملحن: "هو الحب لعبة"، لعزيزة جلال، أو "من العين دي حبة"، لمحمد رشدي، أو "اعطف يا جميل" لعبد المطلب، أو "لي طلب" لطلال مداح، أو "رمش عينه" لمحرم فؤاد، أو "يهديك يرضيك" لعفاف راضي.

برز محمد الموجي مع دخول النصف الثاني من القرن العشرين، ما يعني أن مسيرته الفنية جاءت كلها بعد انتصار "الحداثة الغنائية" التي بدأت في التشكل مع المسرح الغنائي أوائل القرن العشرين، لا سيما مع الألحان المسرحية لسيد درويش، ثم أخذت تترسخ مع الجموح التجديدي الذي قاده محمد عبد الوهاب، ثم فرضها ظهور السينما ثم الراديو. والموجي ابن شرعي لهذه الحداثة الغنائية والتلحينية، تسيطر عليه أفكار التطوير، وتقديم الجديد والمختلف، وبالرغم من كل هذا، فقد كان الرجل يحمل نزوعا نحو "الطرب" أو "السلطنة"، كان يحب الغناء الذي ينتزع الآهات من المستمع، ويتحين فرص التطريب إذا واتاه النص، وساعده صوت المطرب أو المطربة.

وربما كان هذا النزوع الطربي من أقوى الأسباب التي شجعت محمد الموجي على ألا يقطع علاقته بالغناء بصورة كلية. نعم، لم يُعتمد مطرباً إذاعياً، ونعم، وجّه جهده الأعظم للتلحين، لكن حنينه إلى الغناء لازمه طوال حياته، وكأنه السبيل الوحيد لإشباع ذلك النزوع الطربي. وربما يكون في ذلك أيضاً تفسير لتكرار وصف الموجي بـ"الأصالة" في كثير من الكتابات الفنية، وبدرجة تفوق كثيراً زميليه المجايلين: كمال الطويل وبليغ حمدي.

يكشف مسرد الأعمال التي غناها محمد الموجي أن لديه -مع النزوع الطربي- ميلاً صوفياً روحانياً واضحاً، عبر عنه الرجل بعدد كبير من الأغنيات الدينية والأدعية والابتهالات التي كتب أغلب كلماتها أحمد شفيق كامل وعبد الفتاح مصطفى، ومنها: "يا رب سبحانك"، و"أنا كون من الأكوان"، و"بحريتي عشت لا أنحني لغير الإله"، و"دعاء ربي حبيبي"، و"يا موئلي وإلهي"، و"عبد ضعيف"، و"رباه يا حنّان"، و"سبحت صنع ربي"، و"ما أحلى جمال مكة"، و"الخير في القلوب"، و"إلهي أغثني من العاصفات"، و"برسول الله قد بان الطريق".

ومن الواضح أن الأدعية التي لحنها لعبد الحليم حافظ، ورغم نجاحها الجماهيري، لم تكن كافية لإشباع هذه التوجه في وجدانه. أراد أن يستكثر من هذا اللون، وأراد أن يغنيه بنفسه. لم يكن هذا الميل حالة عابرة ولا مؤقتة، لأن تواريخ تسجيل هذه الأعمال امتد لنحو ربع قرن، وتحديداً من 1970 وحتى لحظة الرحيل في الأول من يوليو/تموز عام 1995. كانت حالة صوفية أصيلة، عبر عنها صاحبها بغناء صادق أصيل. 

المساهمون