مدينةٌ عصيّةٌ على الموت: "قد يتحطّم الإنسان، لكنّه لا يُهزم"

07 أكتوبر 2024
في رفح، 15 سبتمبر 2024 (إياد بابا/ فرانس برس)
+ الخط -

"قد يتحطّم الإنسان، لكنّه لا يُهزم". قول الكاتب والروائي الأميركي إرنست همنغواي هذا يصحّ كثيراً على مدينة غزّة. مدينةٌ تتعرّض مرّات ومرّات إلى هجمات بربرية، يتحطّم الكثير منها ويُدمَّر، لكنّها لا تُهزَم. تنهض وتعاود الحياة، كما في الملاحم والأساطير. مدينةٌ عصيّةٌ على الموت. تعانده من أجل البقاء.
مثل هذه المدينة تستحقّ فيلماً ملحمياً عنها. تاريخ السينما حافل بأفلام عن مدنٍ تُشبهها، صمدت في وجه البرابرة والغزاة، فاستحقّت أنْ يُؤرّخ صمودها سينمائياً. عادة، تتأتّى النصوص السينمائية المكتوبة عنها من وحي سرديّاتها البطولية، وسرديّات القضية الفلسطينية فيها ما يكفي لصنع أكثر من فيلم تاريخيّ ـ ملحميّ عنها، وعن بطولات مُدنها المُصرّة على الحياة رغم الموت والدمار، كغزّة.
هل يمكن تحقيق ذلك عملياً؟ يُمكن الإجابة بنعم. لأنّ السينما اليوم لم تعد محصورة على جهات إنتاجية متنفّذة، يصعب منافستها كما قبل عقود. العالم لم يعد غافلاً عمّا يجري في بُقعٍ صغيرة منه. بات يعرف الكثير عنها. يُلاحق تطوّراتها ويوثّقها، وينجز أفلاماً روائية عنها.
بمراجعة المنجز السينمائي المعنيّ بغزّة، نجد هذا الهاجس حاضراً فيها، ومنه ما يكفي لأنْ يكون مرجعاً لعمل ملحميّ لاحق. تكفي مُشاهدة الفيلم القصير "ما بعد" (2024) للمخرجة الفلسطينية مها حاج، لإدراك أيّ عمق فيه، وأيّ مهارة كتابية تُكثّف وجع المدينة وناسها بأسلوب سينمائي باهر وُملهمٍ لراغبٍ في كتابة أوسع عن خسارات أهل غزّة وآلامهم، التي يخفّفونها بقصص من خيالهم، تُحيل الفَقَد إلى حضور وعيش.
وثائقيات أجنبية وعربية وفلسطينية عن غزّة يُمكنها أنْ تكون مرجعاً لمشروع سينمائي ملحمي طموح.
هناك مُتغيّر تاريخي هائل في أهميته، عنوانه "نهاية عصر كتابة التاريخ بقلم المنتصر". يُدرك من يُشاهد مُنجز فينيسا بولز، "منطقة القتل.. من داخل غزّة" (2024) أن لا أحد اليوم يستطيع إغلاق أعين العالم عن رؤية الحقيقة. حصيلته المخيفة من تسجيلات صحافيّين فلسطينيّين من غزّة، صوّروا ونقلوا إلى العالم مقاطع حيّة، تُظهر همجية الجيش الإسرائيلي، وهذا كافٍ للتأسيس عليه سينمائياً، وكتابة نصوص ملحمية عن مدينة غزّة، التي يُراد في هذه اللحظة إبادة أهلها بالمعنى الدقيق لكلمة "إبادة".
يعرف صُنّاع السينما المهرة كيف يعيدون كتابة الصورة ـ الوثيقة، مهما بلغت من قسوة، بأنساق سرد مؤثّر، يترفّع عن استجداء عواطف المُشاهد. هذا حاصل في أفلامٍ وثائقية غير قليلة، رصدت القويّ في دواخل الغزيّين ورغبتهم في عيش حياة سويّة. الذهاب إلى المؤثّر في مشهد المدينة المنكوبة، من دون إسفاف أو بكائية مفرطة، صار السينمائيون يعرفون أهميته، وبينهم عرب وفلسطينيون، لم يخفوا انحيازهم إلى قضية عادلة كالقضية الفلسطينية، لكنّهم أرادوا صُنع أفلامٍ سينمائية "جميلة" عنها.
"باب الشمس" (2004) ليُسري نصر الله، المقتبس من رواية بالعنوان نفسه (1998) للروائي اللبناني الراحل إلياس خوري، يمثّل محاولة جادّة باتجاه كتابة نصّ سينمائيّ ملحمي عن نكبة فلسطين، تُعينه على ذلك كتابة روائية تُدرك وظيفتها الجمالية والفكرية.
مشروع نصر الله ينبغي أنْ يكون تأسيساً، يُعبّد طريقاً لمشاريع أفلام أخرى عن فلسطين تتبعه، فيها النَفس الملحمي نفسه. هذا لم يحصل للأسف، رغم التوثيق المستمرّ لقصص إنسانية، تكمن فيها روح ملحمية. وفي متون أفلام وثائقية كثيرة، هناك أفكار وخامات يَقدَر السينمائي المعني بقضية إنسانية، كقضية غزّة، أنْ يجد فيها ما يُساعد على إعادة ترتيب الذهن لكتابة إبداعية جديدة.

سينما ودراما
التحديثات الحية

هذا اتّخذه صنّاع أفلام عالميون، حين شرعوا في تجسيد المحرقة اليهودية، والظلم اللاحق باليهود في الحرب العالمية الثانية. فلسطينيو غزّة اليوم، بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يتعرّضون إلى محرقة. لا بُدّ من أنْ تدفع سينمائيّين إلى التفكير في تجسيدها في أفلامٍ، لا تقتصر اشتغالاتهم فيها على نقل مشهدها الآنيّ المؤلم، رغم أهمية ذلك.

الرغبة في رؤية مُنجز ملحمي تتأتّى من نقصٍ حاصل في المشهد السينمائي العربي لهذا النوع، لا بُدّ من مراجعته من المعنيين جميعهم بالشأن السينمائي العربي خاصة.
ربما يبدو هذا الطموح أكبر من الإمكانات الحقيقية، لكنّه يبقى ـ حتى لو صحّ ذلك ـ طموحاً مشروعاً. والنقاش الجادّ حوله ربما يُحيله إلى أفكار قابلة للتنفيذ، ما دامت غزّة باقية على عهدها: مدينة تخرج كلّ مرة من محنتها مُحطّمة وموجوعة، لكنّها تبقى عصيّة على الانهزام. والسينما، أكثر من غيرها، معنيّة بالتقاط تلك الخصلة النادرة فيها.
 

المساهمون