اتّسم "أزرق القفطان" (2022)، ثاني روائي طويل للمغربية مريم التوزاني بعد "آدم" (2019)، باقتصادٍ في الحبكة، وبحميميّة، ليروي قصّة حليم (صالح بكري)، خيّاط أزياء مغربية تقليدية، ذي شخصية مرهفة، وزوجته مينة (لبنى آزابال)، المتحكّمة بحزمٍ في شؤون المحلّ، الذي يلتحق للاشتغال فيه يوسف (أيوب مسيوي) كمتعلّمٍ شابّ وموهوب، فينشأ تقاربٌ بينه وبين حليم، تفطن إليه مينة، بالتوازي مع استفحال مرضها.
يتكوّن مثلّث حبّ غير تقليدي، تتناوله التوزاني بحساسية وتوحّد مع دواخل شخصياتها، وتُفصح فيه بإشاراتٍ أكثر من عبارات، وتقطّر الأحاسيس من النظرات ولحظات الصمت، معتمدةً على أداء رفيع للممثلين الكبيرين بكري وآزابال.
هناك تبئير مرآوي، يقرن هيكل الفيلم، السردي والجمالي، بمسار حياكة قفطان تقليدي أزرق، مع التقاط الكاميرا، في لقطات مكبّرة، مُلامسة ومداعبة يد حليم لتفاصيل العُقَد والزخارف الجميلة، مُعبرةً عن فكرة أساسية، مفادها أهمية تقبّل الاختلاف في اختيارات الحبّ، لأنّها (الاختيارات نفسها) قابعة وراء تفرّد النظرة في فنّ التصميم والطّرز، وتجعل من لازمة التأنّي والاشتغال على التفاصيل، التي لا يفتأ الزوجان يذكّران بها الزّبونات الملحّات على تسلّم طلباتهنّ، مرثيةً لفنّ تقليدي آخذ في الاختفاء، بحكم هيمنة الطّرز الآلي، والزخارف المصنّعة والمجرّدة من روح الشغف وآدمية اليدويّ، وحمولة هذا الطرح المرّ، المحيلة إلى نزوع المجتمع إلى الأحادية، والافتقار إلى التعاطف مع كلّ مختلف.
نال "أزرق القفطان" جائزة "الاتحاد الدولي لصحافة النقد السينمائي" عند عرضه الدولي الأول في "نظرة ما"، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) لمهرجان "كانّ"، قبل جائزة لجنة التحكيم في الدورة الـ19 (11 ـ 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش". كما بلغ اللائحة الطويلة لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي. يتوقّع بدء عرضه التجاري في الصالات المغربية قريباً.
تناول الحوار مع مريم التوزاني دواعي نزوعها إلى الفضاءات المغلقة، وحساسيتها في كتابة الشخصيات وإدارة الممثلين، ورؤيتها أهمّ المشاهد التي تلتقط العلاقات المعقّدة بين أطراف مثلّث الحبّ، المختلف والكامن في تصوّر فيلمها.
(*) ما شعورك عند مشاهدة فيلمك هنا، مع الجمهور، في مهرجان مرّاكش، خاصة بعد انقضاء فترة أزمة كوفيد؟
العودة، ومشاهدة فيلمي يُعرض في المغرب لأول مرة، ويلاقي جمهوره الطبيعي، أمرٌ مؤثّر للغاية بالنسبة إليّ. هذا ما أتطلّع إليه. مهما قدّمتُ أفلامي في العالم، أنا قبل كلّ شيء مغربية، والفيلم يحكي عن شخصيات مغربية متجذّرة في ثقافتها. لذا، بالنسبة إليّ، كان هذا العرض مع الجمهور لحظةً مهمّة وجميلة، خاصةً أنّ العاطفة التي شعرتُ بها في القاعة، والشهادات التي تلقّيتها عن الفيلم، أثّرت فيّ كثيراً.
(*) يندرج "أزرق القفطان" في استمرارية عملك الأول "آدم"، لأنّه مبنيّ بدوره على الفضاء المغلق، واستكشاف دواخل الشخصيات، بدلاً من الاعتماد على السرد الكلاسيكي. هل كان الحسم في هذين الاختيارين واضحاً لك منذ البداية؟
نعم، كان واضحاً منذ البداية. أدركت، عندما أعدت مشاهدة أفلامي في الأعوام القليلة الماضية، أنّي كنت أنحو إلى ذلك بشكل طبيعي. عندما أكتب، لا أتوخّى العقلانية. أكتب دائماً كي ألبّي حاجة عاطفية أولاً، وأتابع الكتابة فقط. لا أقول لنفسي إنّي سأضع الشخصيات خلف أبواب مغلقة، أو أنّ عددها سيكون 3. فقط أسلّم العنان لمشاعري، وأترك الشخصيات تحملني. أستمدّ الإلهام من الأدب قبل كلّ شيء. قرأت كثيراً، وأعتقد أنّ هذا سبب أيضاً في أنّي أحب أنْ أغلق على نفسي مع شخصياتي. ذلك الشعور الذي ينتابني من قراءة "الإخوة كارامازوف" مثلاً.
أحبّ أنْ أحتفظ بالأساسيات، وأنْ أحكي الأشياء بشكل مختلف، وأنْ أضع نفسي مكان الشخصية لأختبر تجربتها. لذلك، أختار أنْ أعزل نفسي قليلاً عن العالم الخارجي.
يجيب اختيار الفضاء المغلق على هذه الحاجة بطريقة ما. الفيلم ليس فضاءً مغلقاً بالكامل، لأنّي أرغب في أنْ تكون لديّ قدمٌ ثابتةٌ في المجتمع، لفهم من أين تأتي هذه الشخصيات، ومَن هي حقيقةً. ندين بهويتنا إلى العلاقة بالمكان الذي نعيش فيه، وأين ولدنا، وحيث نشأنا. هذه أشياء تساعد على فهم الشخصيات بشكل أفضل. لكنْ، ما يهمّني قبل كلّ شيء ألّا أسقط في الدراسة الاجتماعية، وأنْ أحتفظ بوازع الحميمية، ودواخل الشخصيات، وصراعها الداخلي، والمشاعر التي تنتابها. ينعكس هذا أيضاً على الطريقة التي أصوّرها بها، حيث أكون قريبةً منها قدر الإمكان، فأضع كاميرا لصيقةً بها بما يكفي، لأشعر بتنفّسها أحياناً، ثم أنفصل عنها أحياناً أخرى، وأتراجع لمراقبة تطوّرها، من دون أنْ أسقط في استراق النظر.
هذه جوانب حاضرة بالفعل في النص، لأنّي أسعى إلى أنْ تكون كتابتي مرئية، منذ زخارف الديكور والألوان، مروراً بالضوء، وقبل كلّ شيء مشاعر الشخصيات، والطابع الحميمي، وهذه تقع في صميم رغبتي في الحكي.
(*) تسعين دائماً إلى استجلاء القصص وراء المظاهر، وهذا يسمح لك بالتطرّق إلى تابوهات مجتمعية. الفتيات العازبات الحوامل في "آدم"، ثم قصة حبّ بين شخصين من الجنس نفسه في "أزرق القفطان"، لكنْ دائماً مع الاهتمام بالجانب الجمالي، خاصة فيما يتعلّق بطريقة التصوير. كيف تتمكّنين من تحقيق هذا التوازن الصعب؟
ما يهمّني قبل كلّ شيء شخصياتي وقصصها، التي تشكّل حافزي الحقيقي. لا أهدف إلى الإدلاء ببيان اجتماعي من وراء ذلك. أرغب في التعرّف عليها، وأن أكون قادرة على النبش في دوافعها، واستكشاف أرواحها، واختبار تجاربها. بعد ذلك، طبعاً، تحتلّ الصورة مكانة مهمة جداً بالنسبة إليّ، لكنّ أهميتها تتعلق بكيفية مساعدتي في ترجمة الطريقة التي أريد بها سرد الشخصيات.
أكتب دائماً بالصور. لذا، فالتحضير مهم جداً لي. أمضي وقتاً كثيراً في التحضير، كما لو كنت أرسم. أحب التشكيل، وأعتقد أنّ إعداد فيلم يستحضر كثيراً حساسية الرسم. يمكن التعبير عن المشاعر من خلال اللون مثلاً، لكنْ ليس بطريقةٍ مُفكَّر بها. بشكل عام، أكتب بطريقة شبه تلقائية أولاً، وأغلق جهاز الكمبيوتر الخاص بي، ثم أعيد قراءة ما كتبته بعد أيام عدّة.
أعمل أولاً على الصور، لأنّي أحب أنْ أقدر على حكي الشخصيات من خلال الـ"ميزانسين" والاهتمام بالتفاصيل. أعشق التفاصيل، وأعتقد أنّ الحياة تتكوّن من تفاصيل صغيرة، لكننا نفوّتها غالباً، لأننا في عجلة من أمرنا دائماً. تمنحنا السينما، بالضبط، إمكانية فرض إيقاعنا. أنْ نقول "حتى لو أنّ الحياة تمضي بإيقاع معيّن، أريد أنْ أتبع إيقاعي الخاصّ". أريد أنْ أتمعّن في تطريز حليم، لأنه يخبرني أشياء مهمّة حول هويته. لا أصنع فيلماً وثائقياً عن التطريز، لكنّ هذا الأخير يعطيني فكرة عن الرجل وراء "المعلّم" (الخيّاط ـ المحرّر). من خلال خياطة القفاطين وتطريزها، يبدو حليم كما لو كان يرتق جروحه الداخلية. هناك جانب مكلوم في داخله، يحاول أنْ يشفيه بالخياطة والاحتماء من العالم. أرغب في أنْ أتعلّم كيف أتعرّف إلى مثل هذه الدواخل، وللصورة معنى منذ اللحظة التي تساعدني في ذلك.
(*) الاختيار القوي الآخر للفيلم التركيز، أو القرار السديد بعدم موقعة الحركة إلّا نادراً خارج الفضاءات الثلاثة: المنزل ومحلّ الخياطة والحمّام، خاصة أنّ الفصل الثالث يظلّ وفياً للطابع الحميمي، حين لا يتبع المسار المتوقّع لافتضاح أمر العلاقة بين حليم ويوسف، ما ينطوي على مجازفة كبيرة. ألم تتخوّفي من ذلك، في مرحلة ما؟
لا، بل هذا ما أردته. ما يهمّني كيف ستتطوّر الشخصيات في علاقة كلّ واحدة منها بالأخرى، وماذا ستقدّمه كلّ شخصية للأخرى، وكيف ستتجاوز مخاوفها. تحتاج مينة إلى شقّ طريقها بنفسها، فقد عاشت 25 عاماً مع الميل الجنسي غير المعلن لزوجها. إنّها تعرف ذلك، لكنها لم تضع كلمات عليه يوماً. أما زوجها، فلا يعرف ما إذا كانت تعرف أم لا. نحن في ميدان المسكوت عنه، والعيش 25 عاماً فيه صعب، لكنها اختارت أنْ تفعل ذلك بدافع الحبّ. اختارت أنْ تحمي زوجها من المجتمع، وتحميه من نفسه، وتحتضنه مثل أمٍّ تقريباً، خاصة أنّهما لم يُنجبا أطفالاً. في وقت معيّن، يبدو الأمر كما لو أنّ الأمّ تقول لنفسها: "أنا مُقبلة على الموت. هل طفلي مُستعدّ لمواجهة العالم؟". لهذا السبب، هناك أوقات تجد نفسها فيها في مواقف تتفاعل معها، لكنّ كلّ شيء يحدث داخلياً. هي من ينبغي أنْ تسلك الطريق لمواجهة مخاوفها وتوجّساتها. عندما يصل يوسف، الشاب المتعلّم، تندفع أشياء كثيرة لتتزاحم في رأسها، وهذا طبيعي. يتمكّن حليم ويوسف من إعادة تعريف حبّهما ليكونا معاً، بينما يتعيّن على مينة تجاوز نفسها لتقدّم لهما مباركتها، إذا استطعنا قول ذلك.
في النهاية، ما يهمّ أنْ يقول حليم لنفسه: "ها أنت ذا، إنّها تحبّك رغم كلّ شيء. علِمَتْ بالأمر، لكنّها لا تزال تحبّني". بالنسبة إليّ، هذه أفضل هدية يمكن أنْ تقدّمها له.
(*) ماذا عن معالجة فضاء الحمّام فيما يتعلق بالتركيز؟
بالنسبة إلى فضاء الحمّام، لم أرغبْ في أن يفتضح الأمر كما عبّرتَ عن ذلك. لم أرغبْ في مواجهة مع المجتمع. المواجهة والتمزّق داخليان أكثر، في الفيلم. أعتقد أنّ الأشياء التي لا يمكننا إظهارها للآخرين أعنف مما يحدث عندما نواجه العالم الخارجي بها. العنف الداخلي أصعب بكثير، برأيي. هذا فيلم عن المسكوت عنه، وأردت أنْ أُبقيَه كذلك.
(*) تدور الأحداث في المدينة القديمة، حيث نصادف قصصاً كتلك التي نكتشفها في الفيلم. أكنتِ شاهدةً على قصص من هذا النوع في علاقتك مع فضاء المدينة القديمة منذ طفولتك؟
نشأت في طنجة، لكن ليس في المدينة القديمة. تظلّ هذه الأخيرة المكان الذي يلهمني أكثر. في الواقع، بدأ عهدي بالمدينة القديمة عندما ذهبت إلى الدار البيضاء، وكان ذلك اكتشافاً حقيقياً. شخصية حليم في "أزرق القفطان" مستوحاة من رجل التقيته بينما كنت أقوم بمعاينة المدينة القديمة. كانت تلك النّقلة، لأنّها ذكرتني بقصص الأزواج التي كنّا نسمعها، حيث يبدو الزواج بين شخصين عادياً، فيما يعيش الرجل حياةً موازية، لكننا لم نكن نبوح بذلك، بصوت عالٍ. إلى اليوم، أعرف رجالاً كبار السّن لديهم هذا النوع من الحياة الموازية.
منذ أن كنت مراهقةً في طنجة، كانت هذه أشياء تؤثّر فيّ، لكنّي لم أكن أعرفها عن كثب، وعندما قابلت ذلك الرجل، شعرت أن هناك شيئاً ملموساً، أعاد إليّ أشياء كثيرة رأيتها وشعرت بها عندما كنت صغيرة. شعرت بعنف الاضطرار إلى الاستيقاظ كلّ يوم، والتظاهر بأنّك شخص آخر. أنْ تلعب دور الرجل المتزوّج، الذي يمكن أنْ ينجب أطفالاً، أحياناً، فقط للحفاظ على واجهة الزواج العادي.
الأمر برمّته يمكن أن يكون عنيفاً للغاية. ما أجده استثنائياً في المغرب حجم التناقضات والفوارق. هذا يعني أنّه يمكننا رؤية رجال مثليين، لا يفعلون الكثير لإخفاء ميولهم الجنسية، بل هناك أشياء في مظهرهم توحي بها أحياناً. من جهة أخرى، أعتقد أنّ للمسكوت عنه حدوداً، وتأتي دائماً لحظة تنتهي فيها الأشياء التي لم تُقَل بإثقال كاهل الإنسان، منذ اللحظة التي لا يستطيع فيها أنْ يكون سعيداً، أو عندما يعيش عذاباً داخلياً. حليم يشعر بالذنب لأنّه يحبّ زوجته، وفي الوقت نفسه يذهب مع رجال آخرين. رغم أنّه يحاول تجزئة الأمور في ذهنه، هناك إحساس بالذنب يُعذّبه.
(*) هناك مشهدان أثارا إعجابي: المواجهة بين مينة ويوسف، قبل أنْ ينسحب الأخير مُتأثّراً إلى الباب فيحتضنه حليم بقوّة، ومشهد الرقص بين الثلاثة. مشهدان يقولان الكثير عن الفيلم من خلال تباين نبرتهما. كيف صوّرتهما؟ هل تمرّنتم عليهما، أم لا؟
بشكل عام، لا أحبّ أنْ أتمرّن على المشاعر مع الممثّلين. قبل البدء، نناقش الشخصيات باستفاضة، ولفترة طويلة. الفهم العميق للشخصية أساسيّ لي. مهمّ أنْ يتمّ البحث عن الحقيقة في المستويات كلّها، فيما يتعلق بمرض مينة/لبنى، والجانب المتعلق بعمل الخياطة، وكلّ ما يرتبط بعاطفة الحبّ بين رجلين ينجذبان إلى الجنس المغاير. صلاح متزوّج، وأيوب ينجذب إلى النساء أيضاً. هذا البحث يحتّم عليك الخروج من منطقة الراحة الخاصة بك، ووضع نفسك في مكان شخصٍ يمرّ بأشياء لا تشعر بها، ما يحتاج إلى إعداد نفسي أولاً.
بعد ذلك، قبل التصوير، نستعدّ لكلّ مشهدٍ من الناحية العاطفية: كيف يجب أنْ تكون الشخصية في تلك اللحظة؟ صحيحٌ أنّ الأمر ليس بديهياً، عندما تكون بصدد فيلمٍ كهذا، لا توجد فيه حركة كثيرة. إنّها موجودة، لكنّها داخلية غالباً. كما لا توجد انقلابات كثيرة على مستوى السرد. لم نصوّر في أماكن كثيرة، وهناك أشياء كثيرة تحدث، لكنْ بشكل مختلف. في هذه الحالة، يجب أنْ تكون العاطفة دقيقة للغاية، ويتعيّن عليك أنْ تكون في المكان المناسب لالتقاطها. يتمّ التحضير حقاً قبل كل مشهد، للتأكّد من أن الممثلين يعرفون إلى أين أريد أنْ أذهب، وما الذي أريد الحصول عليه.
أنا لا أتنازل، وأتحرّى الدقة والكمال. يعرف الممثلون أيضاً أنّه يجب علينا البحث عن عاطفة معيّنة، لكنْ ينبغي أنْ نلتقطها على الخامة. هذا يعني أنّنا لن نتمرّن على العاطفة بل على الحركة. فقط الجانب الميكانيكي. أما العاطفة التي سنبحث عنها معاً، خاصة بالنسبة إلى المشاهد المهمّة، فنتركها للتصوير. أنبش مراراً وأدفع، إلى أنْ أتمكّن من تحقيق المشاعر التي أبحث عنها. لا أحب أنْ نتدرّب على هذه المشاعر، لأنّي أفضّل الحصول على شيء حقيقي. لا أرغب في أنْ أشعر أنّنا بصدد شيء سبق أنْ اختبرناه، ونعيد استحضاره وقتما نريد.
المشهد الذي تتحدّث فيه مينة مع يوسف في غرفة النوم، بالنسبة إليّ، مهمّ للغاية، لأنها تشعر بالذنب لاتهامه بشيءٍ لم يقترفه. كانت بحاجة إلى ذلك، فاستسلمت لرغبة أقوى منها. ولكنْ، في وقت ما، فرض يوسف نفسه عليها بلطفه وسخائه. في البداية، ظنّت أنه مجرّد ولد جميل، فغارت منه. يوسف أكثر من ذلك بكثير. إنّه شخص فاضل مثل حليم، وهذا ما يوحّدهما. في البداية، كان الشغف بالخياطة رابطاً بينهما، وهذا تجد مينة صعوبة في فهمه، لأنّ الشّبان لم يعودوا مهتمّين بالخياطة، بعكس يوسف. عندما ينظر هذا الأخير إلى حليم، فإنّ المعلّم هو الذي يثير إعجابه في البداية، ثم يكتشف شيئاً فشيئاً هشاشة الرجل، ويرى ما وراء المظاهر. عندما تستوعب مينة ذلك، تفهم أشياء كثيرة، وتقطع طريقاً طويلة قبل أنْ تصارح يوسف بها.
هذا مشهد أساسي باعتقادي. هناك أيضاً الاشتغال على مرض مينة، الذي بدأنا نشعر بوقعه في هذا الوقت. يوسف لم يرها منذ فترة طويلة، ثمّ صدمته. خسرت 15 كيلوغراماً، ما يُشعره بأنّه إزاء امرأة تحتضر، فتحرّكت عواطف قويّة فيه. هو أيضاً يشعر بالذنب لأنه مرّ بتجربة مع زوجها، ويحسّ بالانجذاب إليه. إنّه مشهد مُعقّد، وهذا يروقني الاشتغال عليه. أما مشهد الرقص، فإنّه بنظري لحظة تنظر فيها مينة إلى هذين الرجلين، وتنفصل نوعاً ما. هناك شيء في نظرتها، كأنّها تقول لنفسها: في النهاية، ماذا يهمّني؟ أنْ يكون حليم سعيداً، وأنْ يحبّ، وأنْ يكون محبوباً. تعلم أنها سترحل، وأنّ أيامها باتت معدودة. لذا، تريد أنْ تترك وراءها رجلين يحبّ أحدهما الآخر، ويتقبّل كلّ منهما الآخر، ويفخر به.