استمع إلى الملخص
- أسس وأدار الكرد مؤسسات فنية وفرق موسيقية تخدم القضية الفلسطينية، مثل معهد القدس للفنون ومركز القدس للموسيقى العربية، وتعاون مع فرق ومؤسسات فنية متنوعة محليًا ودوليًا.
- تجاوز تأثيره الساحة المحلية إلى العالمية، حيث تعاون مع فنانين عالميين وشارك في مهرجانات دولية، مساهمًا في نشر الوعي بالقضية الفلسطينية عبر أعماله الفنية التي تحمل رسائل الحرية والمقاومة.
خلال خمسين عاماً، استطاع الموسيقي المقدسي مصطفى الكرد (1945 - 2024) أن يفسح لنفسه موقعاً ريادياً بين المغنين والملحنين الفلسطينيين، بل بين تلك الثلة التي جعلت فنها كله في خدمة قضية التحرر من الاحتلال. مسيرة الرجل الفنية، منذ أواخر الستينيات وحتى رحيله في فبراير/شباط الماضي، تؤكد أنه قرر مبكراً أن يقصر عطاءه الموسيقي والغنائي والمسرحي على التعريف بقضية الشعب الفلسطيني، والحض على مقاومة المحتل، وأن يكون إبداعه المتواصل في تطوير "الغناء المقاوم" لا غير.
فالكلمة واللحن والعزف والغناء والفرق والمسارح والمؤسسات لا تشكل عند الكرد هدفاً مطلوباً لذاته، ولكنها مجرد وسائل، وأسلحة معنوية، تضع قضية التحرر غاية نهائية، لتصبح المقاومة أكبر دوافع الإبداع، ولتصير قضية الوطن السليب محور التطوير الموسيقي، والبوصلة الموجهة التي يهتدي بها العمل الغنائي.
تلك قواعد حاكمة ثابتة التزمها الرجل، لا تتغير بتغير الظرف السياسي أو المكاني، ولا تتبدل مع تبدل الأشخاص أو المؤسسات. مصطفى الكرد هو مصطفى الكرد، في فلسطين أو خارجها، في لبنان أو في ألمانيا، في عمل فردي أو ضمن فريق. فلسطين وشعبها وجرحها وثورتها هي الأغنية وهي اللحن.
لعل أهم ما يلفت الباحث في رحلة الكرد الفنية ذلك الاهتمام الكبير بالبناء، سواء بناء الفرق أو المؤسسات. يتمتع الرجل بقدرات قيادية، تدفع به دائما إلى الصدارة، وإلى تكوين الفرق الموسيقية أو المسرحية. في عام 1970، شارك في تأسيس معهد القدس للفنون والمسرح. وفي عام 1976، كان مسؤولاً عن الأنشطة الحرة في جامعة بيت لحم، وعام 1986 أسس قسم الموسيقى في مسرح الحكواتي، وعام 1992 عمل مديراً للدائرة الموسيقيّة في مجلس الفن الأعلى في القدس.
وبعد تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، شغل منصب مدير دائرة الموسيقى في هيئة الإذاعة والتلفزيون التابعة للسلطة، كما ظل مديراً لمركز القُدس للموسيقى العربيّة حتى رحيله. حتى وهو في المنفى، شارك في تأسيس فرقة نوح إبراهيم الموسيقية في بيروت.
تختلف المصادر في تحديد تاريخ صدور أول ألبوم غنائي لمصطفى الكرد، وبينما يرى كثير من متابعي الحركة الفنية في فلسطين أن الألبوم ظهر عام 1974، من خلال مكتب صلاح الدين للنشر، الذي أسسه في القدس إلياس نصر الله وداود خوري وتوفيق أبو رحمة، يرى آخرون أن الألبوم صدر عام 1976. جاء هذا العمل المفصلي بالتعاون مع فرقة "بلالين" المسرحية التي أسسها فرانسوا أبو سالم في عام 1970، وكانت لها الريادة المسرحية في عموم الضفة الغربية.
كتب الكرد بنفسه كلمات أغنيات الألبوم، باستثناء الأغنية الأولى "الجلاد" التي وضع كلماتها الشاعر والمناضل كمال ناصر، الذي استشهد في بيروت عام 1973. تقول: "لن نبكي.. لقد أخرسنا الدموع.. وانطوت الضلوع على الأسى.. فخرا وكبرا.. من سار في درب العلا.. لا بد أن يموت.. لأننا في موتنا.. نستلهم الحياة.. ونخلق الحياة.. نحقق الحياة.. في العدم". لحن الكرد هذا الاستهلال بنغم مرسل، ومع المقطع التالي جاء الإيقاع الحماسي الصاخب يتعانق مع الكلمات المتفجرة: "مزق وحطم أضلعي.. فلم يزل بأضلعي قلب نبي. واضرب فهذا عنقي.. على الأسى لم يطرق".
ثم توالت الأغنيات التي كتبها الكرد، مع نفس يساري واضح، كما في أغنية "الأرض" التي تقول: "راح يجي يوم وتكون الشمس حراقة ويصفر القمح.. والمنجل بحده اللامع.. يحملو الحصاد البارع.. والأمل يصبح حقيقة.. من فتاة زي الرجال.. الأمل يصبح حقيقة.. من سواعد العمال.. الأمل يصبح حقيقة.. من فلاح يزرع الجبال".
ربما يشعر المستمع بأن الكرد لا يملك قدرات صوتية استثنائية، وربما يتعمد الرجل أن يقدم غناء لا يصرف الذهن عن المعنى، ولا ينشغل معه المستمع عن الهدف الأول والأخير وهو فلسطين. لعل هذا يمثل أحد أهم الاختلافات بين أداء الكرد وأداء الشيخ إمام عيسى، الذي لا يغيب الطرب عن غنائه لحظة، حتى لو كانت الكلمات تتفجر حماساً وثورية.
صدر الألبوم بعنوان "أرض وطني"، وكان سبباً في اعتقال سلطات الاحتلال المغني. خضع لتحقيق تواصل 28 يوماً، ثم صدر قرار باعتقاله إدارياً مدة ستة أشهر. ثم صدر قرار بإبعاد الرجل ونفيه إلى خارج فلسطين، ليعيش بين لبنان وألمانيا عشر سنوات، قبل أن يُسمح له بالعودة عام 1985.
في سنوات المنفى، تحول مصطفى الكرد إلى كرة لهب فنية، تكثف نشاطه الموسيقي بدرجة مذهلة. في بيروت، أنتج أسطوانته "نوح إبراهيم"، تحية إلى شاعر ثورة 1936، وتضمنت أغانيَ من كلمات محمود درويش، وتوفيق زياد، وخليل توما، وسميح القاسم. ولما استقر في ألمانيا، تكثف نشاطه، ولا سيما في احتفالات الطلاب وقوى اليسار، وشارك في عدد كبير من الفعاليات، منها: مهرجان برلين للأغنية السياسية، ومهرجان الموسيقى الشعبية في فانكوفر، ومهرجان رودولشتات الشعبي. كما كان ضيفاً مشاركاً في كلية العلوم الموسيقية في جامعة برلين الحُرة.
سجل في أوروبا عدة أغنيات، من بينها "بدون جواز سفر" عام 1979 في بروكسل، كما غنى مع عدد من أبرز الموسيقيين والمغنين السياسيين، مثل: الموسيقار اليوناني ميكيس ثيودوراكيس، وفرقة إينتي إيليماني التشيلية، والمغنية والناشطة الجنوب-أفريقية ميريام ماكيبا، والبرتغالي خوسيه أفونسو، والأميركي بيت سيغر. ولم يتوقف عن الإصدارات الموسيقية، ومنها: "فلسطين حبي" عام 1977، و"أحلم بالغد" و"صوت من فلسطين" وكلاهما عام 1980.
مع اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987، أصدر الكرد مجموعة غنائية جديدة بعنوان "أطفال الانتفاضة". وعام 1990 أصدر مجموعة "القدس" وكل أغنياتها مخصصة للمدينة. وعام 1992 أصدر مجموعة "أطفال من فلسطين". في سويسرا، وتحديداً عام 1993، أصدر مجموعة أغنيات بعنوان "فوانيس"، ثم أصدر ألبوم "المداح" عام 2009. وغنى الكرد لأعلام الشعراء الفلسطينيين، ولحن مختارات شعرية لمحمود درويش، وتوفيق زياد، وفدوى طوقان، وسميح القاسم، وخليل توما، وراشد حسين. ووضع الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام والمسرحيات، وكلها ذات بعد سياسي.
ولد مصطفى الكرد عام 1945، في البلدة القديمة بالقدس، وبعد النكبة، رحلت أسرته إلى أريحا، ثم عادت إلى القدس أوائل الخمسينيات. تفتحت آذانه على صوت أبيه يجود القرآن بعد صلاة الفجر. وكان لحلقات الذكر والإنشاد الصوفي المنتشرة في زوايا المدينة أثرها الكبير في نفسه. جذبه فن التجويد من القراء في المسجد الأقصى.
في السادسة من عمره، ألحقه أبوه بالمدرسة العمرية، فتلقى فيها مبادئ القراءة والكتابة وأحكام التجويد، وفيها أيضا اكتشف المعلمون موهبته الغنائية وصوته الجميل في التجويد، فشجعوه بكلمات الثناء. لكن رحيل أبيه عام 1959 اضطره إلى ترك المدرسة والالتحاق بورشة لتعلم "الحدادة"، فأصبح الحداد الفنان. يغني أثناء العمل، ويجعل من المطارق آلات إيقاع، إلى أن ضاق به صاحب العمل وطرده، فغادر من دون عودة، وقرر أن تكون الموسيقى هي هوايته وعمله.
بالطبع، فإن أعمال مصطفى الكرد لم تنل مستوى واحداً من الشهرة، لكن بعضها دوى في أرجاء فلسطين. في القدس والضفة وغزة، وفي مخيمات اللاجئين في الأردن وسورية ولبنان. وكانت أشهر تلك العبارات تلك التي يقول فيها: "هات السكة وهات المنجل.. إوعى في يوم عن أرضك ترحل". كان لتلك الجملة القصيرة أثر يفوق أثر الخطب المطولة، والكلمات المنسقة.
أحب مصطفى الكرد مدينة القدس، بأبنيتها وحجارتها وشوارعها التاريخية، ارتبط بالبلدة القديمة ارتباطاً وثيقاً، وتألم كثيراً لابتعاده عنها في سنوات المنفى، وخصص أسطوانته المعنونة بـ"المداح" للتغني بذكرياته في المدينة وحاراتها وأحيائها.
كان شيوعياً تقدمياً، توثقت علاقته بكثير من رموز اليسار العالمي، وتزوج من واحدة من نشطائه هي الأكاديمية الألمانية هيلغا باومجارتن، كما كان للمحامية الإسرائيلية التقدمية ليئا تسيمل الدور الأكبر في استصدار قرار من المحكمة يقضي بعودته لانتهاء فترة إبعاده. لكنه كان محباً للتصوف والتلاوة والذكر.
لم يكن غريباً أن يحتشد أبناء مدينة القدس من محبيه وعارفي رحلته النضالية للصلاة على جثمانه في باحة المسجد الأقصى، وأن يتبعوا جنازته في شوارع القدس التي غنى لها دوماً، وصولاً إلى مقبرة المجاهدين، في شارع صلاح الدين، التي تعرف بـ"بقيع الساهرة". فالقدس كانت المبتدأ، وإلى ثراها المنتهى. التزم مصطفى الكرد بأغنيته الشهيرة: "إوعى في يوم عن أرضك ترحل".