تتقن منصة نتفليكس لعبة جذب المشاهدين بمختلف أعمارهم، وتعدد توجهاتهم، واختلاف مشاربهم الثقافية. فكل البيئات حاضرة، لغات وأعمالاً، بما فيها العربية، والأميركية، والأوروبية، والآسيوية، وغيرها. قدرة هائلة على الانتشار، تهفو حيناً بتكرار الأعمال، وتسقط حيناً آخر جراء سطحية العروض واستغباء المتلقي. لكنها، تعيد نسب المشاهدة المرتفعة بعرض أعمال تتجاوز المألوف وحدود المسموح في طرحها السياسي والأخلاقي والاجتماعي والنفسي والجنسي.
في المقابل، تجيد هذه المنصة، لفت الانتباه إلى موضوعات وأفكار وقيم، كلاسيكية وقديمة، بصوغها من جديد وتقديمها في قالب فني عصري، مُبهر في جماليته البصرية، مثلما تتعامل مع موضوعة الصداقة، وتبين أهميتها في الحياة وضرورتها للدعم وتجاوز المشاكل، وخصوصاً في مراحل الطفولة المراهقة.
وهي الموضوعة، أي الصداقة، التي برزت بوضوح في ثلاثة من أعمال المنصة التي حققت نسب مشاهدة مرتفعة، والمصنّفة كدراما وغموض ورعب، وهي: The Midnight Club، ويعني بالعربية "نادي منتصف الليل"، للمخرج مايك فلانغان، والكاتبة ليا فونغ. ومسلسل One Of Us Is Lying ويعني "أحدنا يكذب"، الذي طوّر نصه عدد من المؤلفين، استناداً إلى رواية من نفس الاسم للكاتبة كارين م. مكمانوس. أما المسلسل الثالث، Wednesday (وينزداي)، وهو اسم بطلة المسلسل فهو بتوقيع، تيم بورتون، الذي أخرج الحلقتين الأولى والثانية فقط من العمل الدرامي.
الحبكة في هذه الأعمال الثلاثة متقاربة بشكل كبير: شخص منعزل/مريض/منبوذ، يقتحم عوالم الآخرين (مدرسة في كل الأعمال)، يسبب الإرباك لبعض الطلبة، فيجتمعون، مرة في مكتبة "نادي منتصف الليل"، ومرة في يخت أو في بيت أحد المجتمعين في "أحدنا يكذب". ثم يخططون للنيل من هذا الغريب، أو الالتفاف حوله واكتشاف المؤامرة وحلّ الألغاز، التي تكون جريمة في "أحدنا يكذب"، ومرضاً في "نادي منتصف الليل"، أو سعياً خلف الماورائيات وعالم السحر كما تفعل وينزداي آدامز.
تحتضن تلك الحبكة بيئة تصويرية مرعبة، إما بخضاتها كما في "نادي منتصف الليل"، أو الذي توفره أجواء التلصص والاحتجاز في "أحدنا يكذب"، أو من خلال مشاهد الظلام والبرود والانتقام في "وينزداي".
المقولة الأساسية التي تتبناها الأعمال الثلاثة هي الصداقة بوصفها فضيلةً، وجزءاً أساسياً لا يستطيع أن يحيا من دونه الإنسان. وهو مستعد للتضحية بنفسه إيثاراً لصديقه. الصداقة تُعرّف، في هذا السياق، بوصفها لقاءات واجتماعات وتفاعلات وتعاوناً، وتكوين ذكريات ومواجهة المخاطر، والتواصل غير الشفوي، كتعبيرات وملامح الوجه والإيماءات ولغة الجسد، فهذه كلها خير دليل على عمق رابط الصداقة، وقدرة الصديق على معرفة صديقه، من دون همس.
الصداقة بهذا المعنى، تحضر في هذه الأعمال، على تباين عمقها وسطحيتها في طرح هذه الموضوعة، ويتجسد معنى الصداقة في النهاية على لسان أبطال هذه الأعمال، فإن كان "ثمة طريقة لإنقاذنا، فسأحرق العالم" على حد تعبير إيلانكا في "نادي منتصف الليل"، التي تدرك أنها جلبت المشاكل لزملائها في المدرسة بعد أن أثارت قضية "طائفة المثاليون". فيما تعترف وينزداي لصديقتها التي لا تلامسها ولا تعانقها حتى اللحظة الأخيرة، أنها كانت هي "مصدر الخيبة"، بعد أن ظنت لوقت طويل أن "الاعتماد على الآخرين هو علاقة ضعف".
وما تجدر ملاحظته في هذه الأعمال، هو غلبة البشري على التقني الرقمي. بمعنى تنبني الصداقة فيها، انطلاقاً من علاقات زمالة في المدرسة أو ضمن جلسات العلاج النفسي الجماعية، أو التشارك في الهمّ ذاته، أي أنها علاقات على الطراز القديم، تحاول استخدام التكنولوجيا في إطار يخدم المشاهد، ولا يطغى عليها. وتُظهِر الهدية التي تتلقاها وينزداي آدامز في ختام العمل، وهي هاتف، ما تذهب إليه هذه الإشارة من تقنين الجانب الرقمي في هذه الأعمال إلى حدود معينة.
علاوة على ذلك، فإن بعض الشخصيات في الأعمال الثلاثة، يمتلكون قوى خارقة، ما ورائية، وليست تقنية تخريبية، مثل الرؤى، ومخالب المستذئبين، وأفكار وأوهام تمتلك صاحبها وتحرّكه ليرتكب جريمة قتل، أي أنها تصبح متوقعة وغير مفاجئة من هذه الناحية.
بقدر أهمية هذه المقولة التي تسعى المنصة إلى تعويمها وتحقيق التفاعل معها، بقدر ما تعوم معها مفارقة ساخرة تدركها "نتفليكس"، فهي تنسج وتكرر على أساسها: المفارقة الساخرة التي يقوم عليها هذا النوع من التفاعل، أنك تتفاعل مع من هم خلف الشاشة وتقيم معهم وتجتمع معهم وقد تتفق أو تختلف. لكنك وحيد، ومنعزل، فتعال وانخرط باللعبة، تعال وكن المشاهد/الصديق المتخفي. فالمجتمعات السرية، والمكاتب المخفية، وأجواء حبك المؤامرات بين الرفاق، والشعارات المشتركة، والكود الخاص بالمجموعات، و"صناعة الأشباح"، كل ذلك التقارب والحميمية في الحبكة، تُهيّئ أن يكون المشاهد مشاركاً، متخفياً، بعيداً عن الآخرين، منبوذاً منهم، ولكنه موضع ترحيب، وموضع صديق في مشاهدة هذا النوع من الأعمال. تنتهي الصداقات وتستمر المشاهدات.
كل ما سيأتي من أعمال تتكلم عن الصداقة وقيمتها، لن يبهرنا، لأنه لن يتجاوز ما قاله أرسطو منذ أكثر من ألفي سنة، في "الأخلاق إلى نيقوماخوس": "متى أحب الناس بعضهم بعضاً، لم تعد هناك حاجة للعدل. غير أنهم مهما عدلوا، لا غنى لهم عن الصداقة...".