تطرأ بين الحين والآخر تحديثات على ما بات يُشبه الفهرس الخاص بالثقافة والفنون والمُتداول، سواء كثيمات مفاهيمية أو عناوين تسويقية بين الأوساط الفكرية والفنية الغربية، عادةً ما تستجيب بشكل غير مُعلن أو مباشر، لمزاج المؤسسات ورؤاها من منظور السياسات التي تُرسم، حيال التزامن بين الرسالة الثقافية والمرحلة الراهنة. من بين تلك المُصطلحات الطارئة اليوم، أو الشائعة، التجاور (Juxtaposition). ويعني، وضع بعض الأشياء أو المفاهيم بجوار بعضها الآخر، فتظهر التمايزات بينها ويبين التنافر والتقابل.
لعل التحرّك ضمن مفهوم "التجاور"، كان السمة البادية لدورة هذا العام من مهرجان برلين لموسيقى الجاز، التي احتفلت بمرور 60 عاماً على إطلاقه، على الأقل من خلال عرضين رئيسين. الأول كان حفل الافتتاح، بعنوان "ظهورات" (Apparitions) اشترك فيه ضمن عرض واحد كلٌّ من الرباعي الفرنسي "نوفمبر" (November)، وفريق جاز فرنسي آخر اسمه "قُصاصات" (Les Bribes)، وثلاثي وتري من آلات التشيللو، إضافةً إلى جوقة كورال لأطفال جُمعوا من جوقتين برلينيّتين، كورال بنات Sing-Akademie وكورال صبية أكاديمية الفنون في المدينة.
على مبدأ "إزالة الحائط الرابع"، اعتمد العرض على مَسْرحة الصالة بجميع أقسامها؛ الخشبة، والكواليس، ومجلس الجمهور، وحتى البهو المُفضي إليه. تمركز رباعي نوفمبر في موقعه على الخشبة، كأنما أُريد له أن يبقى نقطة مرجعية، بينما جرى في أثناء الأداء، تحريك وموضعة الفرق الأخرى المشاركة ضمن باقي الأرجاء. من شأن ذلك، أن نبّه جميع الحواس لدى المشاهد، بما فيها البصر، ولا سيما حين حمل الأطفال بأيديهم في أثناء تحركهم أضواء فلاش ساطعة، أخذوا يوجّهونها على وجوه الناس، ضمن جملة من مؤثرات حسّية، جعلت متابعة العرض الذي استمر لساعة من الزمن، باعثة على الضيق والتعب.
في اليوم الذي تلا Apparitions، قدّمت الموسيقية المصرية نانسي مُنير عرضها السمعي المرئي الذي أتى استدراكاً لتكليف حظيت به من قِبَل إدارة المهرجان سنة 2021؛ إذ كان من المفترض، والعالم يشهد مظاهر حجرٍ وحظر سفر استدعاه وباء كوفيد، أن تُرسل الفنانة عمل فيديو فنّي توثيقي، يُلقي ضوءاً على سِيَر كوكبة من المُطربات المِصريات زمان ثلاثينيات القرن الماض، كنّ قد قبعن في ظل مؤتمر القاهرة للموسيقى العربية الذي اقتصر بمجمله آنذاك على المطربين من الرجال.
وإن لم يرد المصطلح مكتوباً في أيّ من النصوص الإعلانية المتعلقة بالحدثين الفنيين، برز التجاور (Juxtaposition) سمةً مفاهيمية عامة للأسلوب الذي صُمم به كلٌّ من عرضي رباعي نوفمبر ونانسي منير. في الأول، وإن تحركت الفرق المُشاركة من الخشبة وإليها وعبر بوابات القاعة، إلا أن المُخرجات الموسيقية ذات الخلفيات المُختلفة من جاز، وكلاسيك وموسيقى غنائية، قد حافظت على خطوط تماس ظلّت تفصل فيما بينها، تارة زمنياً حين تعاقبت على العزف أو تبادلت إطلاق النغمات ورشقات الطبول فيما بينها. وتارةً مكانياً، حين جرت موضعة الفرق الموسيقية وكورال الأطفال أمام، خلف، بجانب أو بمحيط بعضها بعضاً.
أما نانسي مُنير، فقد وزّعت انسجامات لحنية لتشكيل موسيقى حجرة، تألّف من آلات وترية، وبيانو، وترومبيت، وأكورديون، إضافة إلى اثنين من الرواة، مثّل أعضاؤه بلداناً عدة، منها مصر وألمانيا وتركيا، حضروا جميعاً على خشبة المسرح، تقودهم الفنانة المصرية بذراعيها حيناً، وحيناً تعزف على ثرمين (Theremin) منصوبة أمامها، وتلك آلة موسيقية إلكترونية تُنتج الأصوات بواسطة تحريك اليدين بلا تماس، ضمن مجال كهرومغناطيسي شاقولي. الغاية من التشكيل الموسيقى، الثرمين وقراءة النصوص، إجراء مُصاحبةٍ حيّة لتسجيلات أسطوانات قديمة تعود لمطربات أيام زمان، تُسمع عبر صوت فيديو الوثائقي المُسقط على شاشة أعلى - إلى - وسط المسرح، مع شريط ترجمة إلى الإنكليزية.
للوهلة الأولى، لا يبدو أن أيّاً من العرضين قد أفلحا في تحقيق وحدة تكوينية بين عناصرهما المختلفة. حتى فرقتا الجاز اللتان تشتغلان بلون موسيقي واحد، لم تُقدِمَا على التحام حقيقي بينهما، فضلاً عن ثلاثي التشيللو الكلاسيكي أو كورال الأطفال. لهذا، لم يتعدّ الحضور المشترك حدود المحاكاة والترديد، وأحياناً المشاغبة والتشويش.
أما عرض منير، فعلاوة على أنه لم يكن جازيّاً (من جاز) بأية حالٍ توصيفيّة، بدا فيه التباين الشكلي جليّاً والهوة الصوتية بيّنة، خصوصاً بين أداء الفرقة الموسيقية الحيّ والمادة الصوتية الصادرة عن الفيديو، إذ تناهت الانسجامات الهارمونية تقليدية تبسيطية، تجنّبت الاشتباك الحداثي مع البُعيد الشرقي الصادر عن التسجيل، أي ما يُعرَف بالربع تون، ولم تسعَ لاغتنام فرصة خلق مجالات تعبيرية، يُمكن لها أن تلتحم بالضوضاء المُميزة لدوران الأسطوانة القديمة.
إلا أنه عند التأمل من منظور نقدي تحليلي، يضع كلاً من العرضين في سياق مصطلح "التجاور"، عندها، قد يبدو أن أحداً لم يسع أصلاً لتحقيق أي دمج حقيقي بين العناصر أملاً بأية وحدة تكوينية، لطالما شكّلت في ما مضى عماد التجربة الإبداعية.
في المقابل، ثمة رغبة تبدو مُعاكسة، تهدف إلى صون السيادة لدى كلٍّ من مكوّنات العمل الفني وعدم الاقتراب من الحدود التي تفصلها عن بعضها، أو عدم الاكتراث بتجاوزها.
كموضوعة مفاهيميّة ومنهج تطبيقي، ما انفك يتداول بين الأوساط الفكرية والفنية، كأني بالتجاور بات يُسمَع صدى ثقافياً لما يجري هذه الأيام على الصعيد السياسي-اجتماعي. ففي حينٍ استمرت منذ الحقبة الماضية لما بين القرنين، الدعوة إلى الاندماج (Integration) بوصفه السبيل الأمثل لتحقيق الوئام داخل الليبراليّات الديموقراطية بين مكوناتها المتباينة، أخذت تعلو أخيراً أصواتٌ ضمن أوساط ما بات يُعرف بتيار الليبرالية المُفرطة (Hyper liberalism) أو اليسار التقدمي الآخذ في التمدد داخل المؤسسات الأكاديمية والفنية، تنهى عن الاندماج، وتدعو بالمقابل لصون الحدود التي تفصل بين مجموعات الهوية، سواء العرقية، الدينية أو الجنسية، وعلى الأخص المُهمّشة منها، بدعوى حمايتها من مآل الذوبان في الآخر أو حتى خطر الإبادة (Genocide) على يديه، انطلاقاً مما أطلق عليه الباحث في العلوم السياسية الألماني ياشا مونك (Yascha Mounk)، "الفصل التقدمي" (Progressive Separatism).