حين صدر كتاب "وحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين" عام 2013، كانت أمنية مؤلفه، مراد أوزيلدريم، أن يحظى بحثه بترجمة إلى اللغة العربية، كي يتيسر للقارئ العربي عموماً، وللمهتمين بالموسيقى الشرقية على وجه الخصوص، أن يطلعوا على هذه المساحة الكبيرة من التشابه والتقارب والتفاعل والتأثير المتبادل بين أعرق نظامين موسيقيين في "الشرق". بعد عشر سنوات، تحققت الأمنية، بإطلاق هذه الترجمة التي أصدرها مشروع "كلمة" للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية، وحملتها من التركية إلى العربية ملاك دينيز أوزدمير وأحمد زكريا.
يتناول الكتاب جوانب مهمة من العلاقة الموسيقية العربية التركية، ووقائع الاتصال والانتقال بين تركيا والبلاد العربية. وفي الخلفيات التاريخية، يقرّر المؤلف أن القرن التاسع عشر شهد اعتماد الذوق الموسيقي التركي بوصفه "الذوق الإمبراطوري" الشائع في الجغرافيا العثمانية بأكملها تقريباً. ويشير تحديداً إلى شغف حكام مصر بالموسيقى التركية، ودعوتهم فنانين أتراكاً ليكونوا معلمين ومغنين.
ويشير أيضاً إلى الأثر القوي لـ"تكايا الدراويش" العثمانية، باعتبارها ساحة تدريب على الموسيقى الدينية، في بلاد العراق وسورية. لكن المؤلف يستعرض هذا التأثير، مع تأكيده ضرورة الانتباه إلى التقارب الذي يصل إلى درجة "الوحدة" بين الموسيقي التركية وأختها العربية مقامياً وإيقاعياً وآلياً.
هذا التقارب، الذي دفع بعض المستشرقين إلى اعتبار الموسيقى العربية الأصل الذي قامت عليه الموسيقى التركية، وأن الألحان التركية ليست إلا ألحاناً عربية بكلمات تركية، وهو قول تواطأ المؤرخون والباحثون على رفضه وتخطئته. كذلك، يشير المؤلف إلى المشاركة التركية في مؤتمر الموسيقى العربية الشهير، الذي انعقد في القاهرة برعاية ملك مصر فؤاد الأول عام 1932، والجهود التي قدمها كل من الملحن مسعود جميل بك، والكاتب المنظر رؤوف يكتا بك.
لكن أهم وقفات المؤلف وأطولها، كانت لرصد أثر الموسيقى العربية على المشهد الموسيقي التركي خلال النصف الأول من القرن الماضي، وتكمن أهمية هذا الجانب في تناقضه مع السرديات التأريخية المستقرة، التي جعلت للتأثير اتجاهاً واحداً، من تركيا على بلاد العرب، من دون أي ذكر لتأثير مضاد من موسيقى العرب على الأتراك.
ففي ظل الآثار الكبيرة للثورة الأتاتوركية على الموسيقى العثمانية، والرغبة السلطوية العارمة في فصل الدولة والمجتمع عن الهوية الشرقية، التي بلغت في بعض المراحل إلى حظر إذاعة الموسيقى التركية الكلاسيكية عبر الراديو، ومنع تدريس هذه الموسيقى في المدارس، وإعادة هيكلة المعهد الموسيقي على أساس غربي، توافر مناخ يصبّ في صالح موسيقى العرب، إذ كانت هذه الإجراءات سبباً أساسياً لاندفاع الشعب التركي إلى الإذاعات العربية، ولا سيما الإذاعة المصرية، والاستماع إلى كبار المطربين العرب، وفي مقدمتهم أم كلثوم وعبد الوهاب، كذلك كان سبباً للإعراض عن الإذاعة التركية التي فرضت الموسيقى الغربية على أمة افتخرت دوماً بتاريخها الموسيقي الضارب في عمق الزمن.
ينقل المؤلف كلمات بالغة القسوة، ألقاها كمال أتاتورك بنفسه في خطابه أمام البرلمان التركي يوم 1 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1934، إذ قال مؤسس الجمهورية التركية: "إن مقياس التغيير الجديد للأمة هو قدرتها على إدراك التغيير في الموسيقى". وقال: إن "الموسيقى التي تؤدى اليوم بعيدة كل البعد عن أن تكون جديرة بالثناء".
في اليوم التالي لخطاب أتاتورك، أصدر وزير الداخلية شكري كاياما قراراً ينص على "إزالة الموسيقى التركية من البرامج الإذاعية تماماً، وإذاعة المقطوعات الموسيقية التي تعزف على الطراز الغربي فقط، من قِبل الفنانين الذين يعزفون الأسلوب الغربي". لكن كلام أتاتورك وقرارات وزير داخليته جاءت بعد 150 يوماً فقط من افتتاح الإذاعة المصرية التي استهلت برامجها بصوت الشيخ محمد رفعت، وجعلت أم كلثوم في صدارة فقراتها الأولى، وهو ما سيكون له أكبر الأثر على الحالة الاستماعية الجماهيرية في عموم تركيا.
مع حظر الموسيقى التركية، اتسع الاستماع إلى الإذاعة المصرية، وكان الإقبال الجماهيري على تلاوات القرآن كبيراً، وينقل المؤلف فقرات من مقال للكاتب والشاعر والبرلماني التركي أحمد طلعت أوناي في مجلته الأسبوعية "دويجو"، يقول فيها: "ازدادت الرغبة في الاستماع إلى القرآن من لسان عربي، لدرجة أن جميع الأتراك على اختلاف أفكارهم كانوا يريدون أن يستمعوا إلى القرآن الذي يُبث من الإذاعة المصرية. لقد كنت في تشانكيري أخيراً، وعلى الرغم من برودة الجو في تلك الليلة، رأيت 500 شخص، بينهم مثقفون، يستمعون إلى القرآن من الإذاعة المصرية، وقد توقفوا عن لعب الطاولة والأوراق، وقد عرفت أن الأشخاص الذين عرفوا مواعيد التلاوة يجتمعون أمام المقهى في الوقت المحدد، وأن أكثر من 500 فنجان قهوة بيعت لمستمعي القرآن وحدهم تلك الليلة".
اختلفت المصادر في مدة الحظر الذي فرض على الموسيقى التركية، لكن المتفق عليه أن الوقت المحدد لبثّ الموسيقى التركية تقلص كثيراً جداً، فاستمر الإقبال الجماهيري على الإذاعة المصرية، وكذلك عبر السينما، فقد لاقت الأفلام المصرية، ولا سيما أفلام عبد الوهاب وأم كلثوم، رواجاً كبيراً وشعبية جارفة، وكانت أغنيات الأفلام أكبر أسباب رواج الإنتاج السينمائي المصري بين الشعب التركي.
بدأ عرض الأفلام المصرية المترجمة في تركيا عام 1936. ووفقاً لمصادر متعددة، استند إليها المؤلف، فقد عُرض في تركيا 130 فيلماً مصرياً حتى عام 1948. وخلال الحرب العالمية الثانية، أصبحت الأفلام المصرية القوة التي لا تضاهى في سوق السينما التركية بسبب الإقبال الجماهيري غير العادي.
وينقل المؤلف عن صحافيين وباحثين تفاصيل الاحتشاد الجماهيري في طوابير طويلة أمام دور العرض السينمائي في تركيا لمشاهدة فيلم "دموع الحب" لمحمد عبد الوهاب. وجاء في نص الإعلان الذي نشرته جريدة "صون بوست" يوم 1 يناير/ كانون الثاني 1939: "إنه على الرغم من العواصف، وموجة البرد والأمطار والوحل لم يكترث سكان إسطنبول وتوافدوا على سينما "أزاك" و"شهزادة باشي فرح" لمشاهدة فيلم دموع الحب، مع الكلمات التركية والأغاني العربية".
وخلال شهر واحد، كانت بعض دور العرض قد باعت 120 ألف تذكرة، وبعضها 150 ألفاً. كان عدد سكان تركيا في ذلك الوقت 17 مليوناً، لكن مع نهاية العام، كان الفيلم قد باع 12 مليون تذكرة، منها 7 ملايين تذكرة في إسطنبول وحدها، وعدد سكانها آنذاك لم يجاوز 950 ألفاً. كان غناء محمد عبد الوهاب في أفلامه من أكبر أسباب النفوذ السينمائي المصري في تركيا.
يوضح المؤلف أن الأفلام العربية كانت تعرض بدوبلاج تركي، لكن أغنيات الأفلام كانت تقدم كما هي. وبالرغم من أن الجماهير لا تعرف معاني الكلمات، إلا أن الاهتمام بالأغاني كان كبيراً جداً. بعد فترة، أزعج الإقبال الجماهيري على الأفلام المصرية دوائر نافذة في الحزب الحاكم، وتلقت وزارة الداخلية في فبراير/ شباط 1942 عريضة تحذر من تراجع اهتمام الناس باللغة التركية في المناطق الواقعة تحت تأثير الثقافة العربية بسبب تأثير الأفلام. وبعدها، حظرت المديرية العامة للمطبوعات عرض الأفلام التي تحتوي على أغانٍ عربية بلغتها الأصلية.
وكتب ضياء أورتاتش، صاحب مجلة "أكبابا"، مقالاً نشره في الصفحة الأولى بعنوان "خطر"، أبدى فيه انتقادات شديدة للإذاعة المصرية، ثم حذر من انتشار الأفلام العربية، قائلاً: "علينا أن نفكر جيداً، يوجد الآن في كل سينما فيلم عربي. يجب أن نخاف من هذا العدو الجديد. السينما أقوى كثيراً من أدب الديوان العثماني".
خصص المؤلف باباً كاملاً تناول فيه دور الصحافة في تعريف الجماهير بالفنانين العرب والأتراك، وتغطيات الصحافة المصرية لبعض الأنشطة الموسيقية التي قدمها فنانون أتراك أو فرق تركية في القاهرة أو الإسكندرية، لكن حديثه عن الاهتمام الكبير من الصحافة التركية بالمطربين العرب، مثّل تعزيزاً لتلك الرؤية التي تقول بالتأثير المتبادل، وتقدم الشواهد على تأثر الأتراك بالغناء العربي.
ويقول المؤلف إن أخبار أم كلثوم كانت في طليعة التغطيات المعنية بالفنانين العرب في الصحافة التركية، باعتبارها أكبر المطربات في القرن العشرين. ويؤكد أن مستوى الإعجاب بها في تركيا يماثل ما تحظى به بين الجماهير العربية، وينبه إلى أن هذا الإعجاب لم يبدأ مع دخول أم كلثوم ميدان السينما، بل بدأ مبكراً، ومواكباً لصعودها الجماهيري في مصر والبلاد العربية.
ويسوق المؤلف أمثلة لاهتمام الصحافة التركية بأم كلثوم، ومنها مجلة "فوتو مجازين" التي خصصت في أحد أعدادها أربع صفحات مصورة لكوكب الشرق، التي تحدثت عن رغبتها في زيارة إسطنبول، وذكرت المجلة أن أم كلثوم تمتلك مئات الإسطوانات التركية بمنزلها في الزمالك.
يشير المؤلف إلى مقابلة أجرتها مجلة "يني مجموعة" مع أم كلثوم في 23 فبراير/ شباط 1940، على ثلاث صفحات تضمنت 12 صورة. وكتب محرر المجلة في تقدمة الحوار قائلاً: "أم كلثوم المغنية المصرية الشابة التي تصادفون صوتها الحارق والسحري في بعض الليالي فلا يمكنكم تركه، هي إلهة الصوت التي أثرت في العالم الإسلامي كله من الهند إلى داخل أفريقيا".
تقوم الموسيقى الشرقية على ركنين، هما: المقامات والإيقاعات، وتكاد الموسيقى العربية تتطابق مع نظيرتها التركية مقامياً وإيقاعياً، بل وآلياً، وتلك الحقيقة الكبيرة كانت وراء وضع هذا الكتاب، الذي بذل مؤلفه جهداً توثيقياً كبيراً، ليقدم رؤية تتجاوز الكلام المتكرر عن "الهيمنة" و"التحرير" والتأثير الأحادي؛ إذ يبدو أن التأثير المعاكس كان أكبر مما نظن.