ميشيل خليفي... نقطة على السطر بعد ثلاثة أفلام

26 أكتوبر 2024
وُلد خليفي في مدينة الناصرة عام 1950 (موقع المخرج)
+ الخط -

كُرِّم المخرج البلجيكي الفلسطيني ميشيل خليفي (1950) في الدورة الـ51 (9 ـ 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024) لـ"مهرجان السينما في غان (Festival Du Film De Gand)" في بلجيكا، بعرض ثلاثة أفلامٍ له بنسخ مُرمّمة: "الذاكرة الخصبة" (1980) و"معلول تحتفل بدمارها" (1985) و"عرس الجليل" (1987)، والأخير معروض للمرة الأولى دولياً في "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ40 (7 ـ 19 مايو/أيار 1987) لمهرجان كانّ.

كما مُنح "جائزة جوزف بلاتو"، وذلك "تقديراً لأعماله الغزيرة التي تُحلّل أعماق الهوية الفلسطينية، والعلاقات مع الإسرائيليين"، بحسب بولين هوفمان، في مقدّمة حوار أجرته معه (لو سوار البلجيكية، 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، التي أضافت أنّ الجائزة "سياسية بالتأكيد"، بينما "يستمرّ الدمار في غزّة والحرب في لبنان على قدمٍ وساق". في الحوار نفسه، تسأل هوفمان عمّا إذا يُمكن اعتبار التكريم والجائزة تكريماً للسينما الفلسطينية، عبر ميشيل خليفي، فيُؤكّد المخرج لها هذا، موضحاً أنّ في التكريم والجائزة "رسالة تضامن"، مُضيفاً أنّ "هناك تغيّراً في الوعي إزاء الآلة العالمية للمشروع الصهيوني، شديدة العدوانية والكلبيّة، و(شديدة) التنظيم".

اختيار الأفلام الثلاثة هذه غير معروف سببه، لكنّه يُشير ضمناً إلى محاولة تقديم أبرز المحطات السينمائية لخليفي، بما فيها من سرديّات وفنّيات ومسارات درامية، إضافة إلى حكايات منبثقة من عمق الواقع والذاكرة والعيش، والموقفين الثقافي والأخلاقي للمخرج إزاء الحاصل في بلده منذ "النكبة" (1948) على الأقل.

فـ"الذاكرة الخصبة" يتناول وضع المرأة الفلسطينية في يوميات العيش في الاحتلال الإسرائيلي، عبر سيدتين، خالته فرح حاطوم والأديبة سحر خليفة. لكنّ هذا التناول غير متوقّف عند مرويّاتهما، لتمكّن ميشيل خليفي من غوص انفعالي وفكري وبصري في أحوال بيئة واجتماع وعلاقات.

أمّا "معلول تحتفل بدمارها" فيكاد يكون أكثر الصُور السينمائية ردّاً على الجُرم الإسرائيلي الراهن، وتأكيداً على متانة العلاقة الفلسطينية بين الفرد ومدينته/بلدته/ بلده. "معلول" قرية في قضاء الناصرة، يُهجّر أهلها المسيحيون منها في نكبة 1948، بعد تدميرها. لكنّ فعل المقاومة، رغم تواضعه وبساطته وصدقه وشفافيته، حاضرٌ: في يوم "استقلال" إسرائيل فقط (14 مايو/أيار 1948)، يُسمح لأهلها بالعودة إليها، فيحتفلون بها وبهم، مؤكّدين أنّ ذاك "اليوم" نكبةٌ وليس استقلالاً.

في أول روائي طويل له، "عرس الجليل"، يُنجز ميشيل خليفي فيلماً سيُصبح منعطفاً أساسياً في التأسيس لسينما فلسطينية تمزج بين جماليات الصورة وأدواتها، ووقائع العيش في بلدٍ محتلّ. فالـ"عرس" هذا يقول إنّ السينما حاضرةٌ لتروي حكايات ناسها بلغة جمالية وواقعية وصادقة. يُفرض على المختار دعوة الحاكم العسكري وبعض ضباطه إلى عرس ابنه، فيكون الاحتفال مفتوحاً على مسألتين: علاقة الإنسان الفلسطيني بالمحتلّ، وتفكيك شيءٍ من ارتباكات الاجتماع الفلسطيني وأساليب التربية والسلوك البشري والتفاصيل الحميمة. خليفي أحد المخرجين الفلسطينيين القلائل الساعين إلى ابتكار لغة جديدة في التعاطي مع السؤال الفلسطيني، خاصة في المراحل الأولى من اشتغالاته السينمائية، بين فيلمي "الذاكرة الخصبة" و"نشيد الحجر" (1990)، من دون تناسي أهمية النصّ الوثائقي في "الزواج المختلط في الأراضي المقدّسة" (1996)، علماً أنّ تعاونه مع المخرج الإسرائيلي إيال سيفان في "الطريق 181، مقاطع رحلة في فلسطين ـ إسرائيل" (2003)، يُنتج عملاً وثائقياً بالغ الأهمية على مستويي الشكل والمضمون.

في حواره مع "لو سوار"، يقول ميشيل خليفي إنّ الفنّ والأدب والسينما "فنون إنسانية، وليست مجرّد عمل فني" فقط، مُضيفاً أنّ "المخرجَ مواطنٌ قبل أي شيء". ويرى أنّه "لا يمكن التسامح مع حالاتٍ تكون المعاناة فيها هائلة، والنهج إبادة جماعية. الناس منزعجون، وهذا طبيعي. لذا، علينا أنّ نُقدّم الأخلاق المهنية والأخلاقيّات كأساسات". تسأل هوفمان: "هل يُمكن للسينما الفلسطينية أنْ تبقى موجودة اليوم في الأراضي الفلسطينية وفي إسرائيل؟"، فيُجيبها خليفي: "يجب أنْ تكون"، متذكّراً في الوقت نفسه قصيدة لمحمود درويش "يصف فيها مصير الفنان الفلسطيني كمسيح يحمل صليبه ويتجوّل الآن في شوارع العالم"، ومتوقّفاً أيضاً عند توفيق زياد، القائل للإسرائيليين: "كيف ستعيشون في جزيرة، وتكونون أعداء محيطٍ من النيران؟".

تنتقل هوفمان إلى ارتكاز سينما ميشيل خليفي على الهوية الفلسطينية، سائلةً إياه عن ارتباكات أو تعطّل ما يُمكن أنْ يُصيبها في هذا العام المنصرم، فيقول لها: "إنّها موجودة، ونقطة على السطر، وإنْ يُنكرها بعضهم. المجازر في غزّة تُعزّز هذا، لكنّنا نشعر بالتهديد أكثر فأكثر. حتى في الناصرة (المولود فيها خليفي في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1950)، بدأنا نشعر بالخوف، والخوف يولّد الغضب والعنف".

تختار هوفمان فيلمه "زنديق" (2009)، الذي ترى أنّ "النكبة" تلعب دوراً مركزياً فيه، لتسأله إنْ يخشى رؤية الخوف من نكبة ثانية، بسبب الحاصل في غزّة اليوم: "أتكون هناك صدمة فلسطينية؟"، فيُجيبها: "بالتأكيد. لكنّ هذا سخيف من الإسرائيليين: إلى متى سيستمرّون في بناء وجودهم على السلاح وتوازن القوى؟ عند ذهابي إلى غزّة للمرّة الأولى (نهاية سبعينيات القرن الـ20)، مع أندريه دارتُفَل، لصنع فيلم لقناة RTBF (راديو ـ تلفزيون بلجيكي في المجتمع الفرنسي)، لم يكن هناك سوى عدد قليل من السيارات العسكرية، التي تسيطر على كلّ غزّة". يتابع: "اليوم، لا يستطيع الجيش الإسرائيلي بأكمله أنْ يفعل ذلك، رغم كلّ القصف. دعونا نتطلّع إلى المستقبل. مؤكّد أنّ الإسرائيليين سيتقدّمون في المستويات كلّها. لكنْ، من ناحية أخرى، سيتقدّم الآخرون كذلك".

المساهمون