بأحكام السنوات والعقود، كانت نجاح سلام (1931 ــ 2023)، عميدة المطربات والمطربين العرب، إذ ليس بين الأحياء منهم من تلامس رحلته الغنائية المسجلة أواخر الأربعينيات من العقد الماضي. ظهرت سلام واشتهرت قبل فيروز، وقبل نجاة، وصار اسمها وصوتها عنواناً على تاريخ فني طويل، يحظى بالتقدير والاحترام في مختلف البلدان العربية، وبين الجاليات العربية في أنحاء العالم.
كان صوتها جذاباً مدهشاً، لكن مصدر الدهشة الكبرى تمثل في عطائها الفني الضخم المتنوع، وفي قدرتها على تكييف صوتها مع بيئات مختلفة. وقبل كل هذا، يأتي انحيازها الفني، المبني على انحيازاتها القومية والعروبية، وثباتها على هذه المبادئ، فاتخذت لصوتها "مساراً فكرياً"، كانت له الأولية دائماً عند أي تعارض مع "مسارها الفني".
يرى الناقد الفني فادي العبد الله، أن نجاح سلام لعبت أدواراً في التشكيل الأول للهوية الموسيقية اللبنانية، قبل ظهور الرحابنة، ثم انفتحت على الأداء الجبلي من دون أن تنقطع صلتها العميقة الوثيقة بالموسيقى المصرية أيضاً. وفي وقت لاحق، غنت لسورية وللعروبة، وأدت أغاني خليجية. وهي في كل ذلك كانت تعكس وجهاً بيروتياً، مختلفاً عن المدرسة الرحبانية وصوتها الفيروزي المتسامي. وجه يسعى جاهداً إلى تجسير أساليب فنية وقضايا سياسية على امتداد المنطقة بصوت قوي، عميق التأثر بالطرب المشرقي. ربما كان لهذا المشروع السياسي - الاجتماعي البيروتي حدوده المؤسساتية والفنية، فظل صوتها، دائماً أعظم من إنتاجها رغم تعاونها مع كبار الملحنين.
ويعتبر الباحث كريم جمال، أن صوت نجاح سلام بشرقيته حمل ملامح النهضتين المصرية واللبنانية، فقد استطاعت أن تتطور من طفلة صغيرة تسترق السمع لأبيها الأديب والعواد القدير محيي الدين سلام، إلى فنانة موهوبة فرض صوتها وثقافتها الموسيقية الثرية حضورها على الساحة الغنائية، بطرفي جناحيها المصري واللبناني، في زمن كان الصعود فيه إلى القمة محفوفاً بالصعاب. وبرأي جمال، فإن مشهد نجاحها الأول يبدأ مع التطور الملحوظ الذي عاشته الإذاعة اللبنانية مطلع الخمسينيات، وبداية تعرف المجتمع المصري على الأصوات اللبنانية الصاعدة آنذاك في الإذاعة البيروتية، لا سيما بعدما فرض رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح قراره التاريخي على صانعي الأغنية في الإذاعة اللبنانية بالالتزام التام بهوية لبنان الثقافية نصا ولحنا، وهو ما شكل ظرفا مواتيا لتسرب الأغاني اللبنانية بصورتها الفطرية المعبرة عن الصعود القومي للأمة اللبنانية التي يعاد تشكيلها، إلى المجتمع المصري.
ويشير جمال إلى أن تيمة حظ سلام جاءت في أغنية من ألحان فيلمون وهبي يقول مطلعها "على نار قلبي ناطر المكتوب"، ورغم أن صوت نجاح سلام في تلك المرحلة كان لا يزال في طور التكوين، فقد فتحت لها تلك الأغنية أبواب المجد مع وهبي، إلى أن شهد تعاونهما في مطلع الخمسينيات نقلة جديدة مع أغنية "برهوم حاكيني"، التي لاقت نجاحا منقطع النظير، بعدما تسربت الأغنية إلى المجتمع المصري. وهو ما يتذكره فيلمون وهبي في حوار معه عام 1962 قائلا: "لاقت أغنية (برهوم حاكيني) نجاحا منقطع النظير، فقد رددها عشرون مليون مصري بعد إذاعتها الأولى على مسرح التحرير، وطار صيت نجاح سلام، كما تضخم صيت محسوبكم فيلمون". كان نجاح تلك الأغنية سببا لأن يطلب الموسيقار محمد عبد الوهاب تسجيلها على أسطوانة لصالح شركته "كايروفون"، وليدمجها في الفيلم المصري "دستة مناديل" عام 1954 استغلالا لنجاحها.
ويضيف جمال أن تعاون فيلمون وهبي مع نجاح سلام طوال سنوات نشاطها كان مثمرا، حتى بعد زواجها من شريكها الفني محمد سلمان، فقدما معا أغنيات في الخمسينيات مثل "الشب الأسمر جنني"، و"طل علينا"، و"قالوا لي عاشق ودبلوماسي"، و"يا الله شو اشتقت لك"، وأغنية "يا ظريف الطول"، و"الشختورة". وكذلك أغنية وطنية مصرية سجلتها نجاح تحيَّة للوحدة المصرية السورية عام 1958، يقول مطلعها "اليوم اليوم يوم النصر". ويبدو أن تلك الأغنية قد لاقت نجاحا كبيرا وسط أغاني تلك المرحلة الهامة، ولهذا تشير مجلة "الكواكب" الصادرة في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1958: "فيلمون وهبي الملحن اللبناني الذي لحن أغنية (اليوم اليوم يوم النصر) الناجحة التي ترنم بها الشعب لنجاح سلام".
ارتبطت نجاح سلام بمصر وشعبها ارتباطاً وثيقاً، ليس فقط لأنها جاءت إلى مصر في بداية حياتها الفنية كما فعل كثير من المطربين والمطربات، ولكن لأنها انصهرت بفنها وصوتها لخدمة المعارك المصرية الكبرى خلال الخمسينيات والستينيات. لم يكن غريباً يوم وفاتها أن تتفق المواقع والصحف والقنوات التلفزيونية المصرية على وصفها بصاحبة أغنية "يا أغلى اسم في الوجود"، تلك الأغنية الخالدة، التي كانت ولا تزال تترك أثراً عميقاً في نفس كل مصري، من الكبار المعمرين وحتى تلاميذ المدارس.
في بدايات تكوينها الفني، حفظت نجاح سلام كل أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب، وعندما زار "موسيقار الأجيال" بيروت، ونزل ضيفاً على أحد أقرباء آل سلام، فاصطحبها أبوها المغني وعازف العود القدير محيي الدين سلام إلى منزل قريبه لعل عبد الوهاب يستمع إليها، وهناك غنت الفتاة: "إيه جرى يا قلبي إيه... كل يوم لك حال جديد"، فعلق عبد الوهاب بعبارته الشهيرة "شيء خطير"، ثم خاطب الأب قائلاً: "أفضل أن أسمعها في استديو الإذاعة". وفي الاستديو غنت لأم كلثوم، فازداد إعجاب عبد الوهاب بأدائها، وطلب منها التدريب المتواصل كي يكتمل نضج صوتها.
بعدما استقرت في مصر أوائل الخمسينيات، واكبت نجاح سلام معارك مصر بقيادة جمال عبد الناصر، فغنت عدداً من الأغنيات الحماسية، للثورة، وقضاياها، لاسيما خلال حرب 1956، عقب إعلان ناصر تأميم قناة السويس، وأيضاً خلال فترة الوحدة بين مصر وسورية، وحرب يونيو/ حزيران 1967. كما استمرت في غنائها لمصر وشعبها بعد رحيل جمال عبد الناصر.. ومن هذه الأغاني: "المؤامرات"، و"المناضل والشهيد"، و"المتحدة العربية"، و"الوفاء لمصر"، و"بدي عريس"، و"تعيشي يا بلدنا"، و"تعيشين مصر"، و"حكايتي مع مصر"، و"صفر يا وابور"، و"عاشت الثورة"، "عيد ثورة أمتنا يا عيدنا"، و"في حب مصر"، و"مصر الفتية"، و"مصر بخير" و"مصر يا غالية ويا أحلا نشيد"، و"عظيمة يا مصر"، وقصيدة "بورسعيد" التي غنتها أثناء "العدوان الثلاثي" عام 1956، لكن أخلد أغانيها في هذه الفترة كانت قصيدة "يد الله"، المشتهرة بمطلعها "أنا النيل مقبرة الغزاة"، من نظم الشاعر، محمود حسن إسماعيل وتلحين رياض السنباطي.
مرت نجاح سلام بمحطات مهمة في مسيرتها الفنية. ويرصد المؤرخ الفني السوري مروان منصور أهم هذه المحطات قائلاً: حصلت نجاح سلام على شهادة الإعدادية الفرنسية (البريفيه)، وبعدها حرص والدها على رعايتها فنياً، فوظفها في الإذاعة اللبنانية لتصقل موهبتها، قبل أن يصحبها إلى القاهرة، وقبل أن تتزوج من الفنان محمد سلمان. وبعد تعاونها مع عدد من ألمع الملحنين المصريين، التقت نجاح سلام بالموسيقار رياض السنباطي الذي وصفها بالصوت المخملي، وظفرت منه بتسعة ألحان، من أشهرها وأنجحها على الإطلاق: "عاوز جواباتك... يعني افترقنا خلاص" من كلمات حسين السيد.
ويضيف مروان منصور: لم تترك نجاح سلام لوناً من ألوان الغناء إلا وأدته، غنت للعاشقين وغنت للبنان وفلسطين والنيل والعروبة. كما غنت بكل اللهجات العربية، ومن أجل ذلك أهداها الأمير عبد الله الفيصل أغنية "يا ريم وادي ثقيف"... وقد عادت نجاح سلام لتقيم في لبنان بعد سنوات طويلة من إقامتها في مصر، واستقبلت في بيروت على أرفع المستويات، حتى إن الرئيس اللبناني (حينها) إلياس الهراوي نفسه استقبلها وأبدى إعجابه بصوتها وبغنائها، واستمع إليها أيضاً في حفل تكريم الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب في قصر بيت الدين، وصفق لها بحرارة أكثر من مرة وهي تغني رائعة أم كلثوم وعبد الوهاب "أنت عمري". وعندما جاء فريق من التلفزيون الياباني لتصوير فيلم وثائقي عن عودة الهدوء والاستقرار إلى لبنان، لم يجد أفضل من نجاح سلام للقاء مصور يؤكد هذا الاستقرار.
ومع إعلان خبر رحيل نجاح سلام شعر كثير من المهتمين بالغناء والموسيقى أنهم فقدوا "جزءا من تاريخهم" وصمودهم وذاكرة معاركهم. اختارت ألا تكون مجرد مطربة، بعد أن جعلت من صوتها ديواناً غنائياً لتوثيق المعارك العربية.