تبدو صورة الرجل السوري مُثيرة للسخرية، أما النساء، فهنّ قائدات المستقبل، وحاملات رايات التغيير والتمرّد والثورة.
هذه قراءة أولى لفيلمٍ يُسطّح العلاقات الأسرية ويُهزّئها، في بلدٍ منهار. ربما حتّى يغمز لدورٍ لها (العلاقات) في الوصول إلى ما وصل إليه البلد. هذا في قراءة ثانية، تحاول أنْ تكون أكثر رفقاً به.
لكنّ القراءتين المنصبّتين على الموضوع، بالأحرى على جزءٍ رئيسي منه، ربما تظلمانه، إذْ يجدر عدم قصر الانتباه في السينما إلى الموضوع فقط، بل أسلوب معالجته أيضاً. فهل نجح "نُزوح" (2022)، للسورية سؤدد كعدان، في تناول موضوع مهمّ وشائك، وفي مزج جوانب عدّة من حالة مُعقّدة؟
بعد "يوم أضعت ظلّي" (2018)، فيلمها الأول ـ الفائز بـ"أسد المستقبل" في مسابقة "آفاق"، في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (لاموسترا)" ـ الذي استحضر خطر حرب غير مرئية على عائلات سورية، تعود كعدان بفيلمٍ ثانٍ، كلّ شيءٍ مُهيأ له كي ينجح، ويلقى الاستقبال الحسن. قصّة عن سورية، التي وإنْ خَفّ الانتباه إليها عالمياً، لا تزال تُثير اهتماماً، سينمائياً على الأقل، مع عنوان جذّاب لقضية حساسة: هل البقاء في بلدٍ، وإنْ كان مُدمّراً، واجبٌ، أم أنّ النزوح منه ضرورة تُلغي كلّ واجب؟
موضوعٌ جدير بالمعالجة، مع كلّ السوريين النازحين والمهجّرين واللاجئين، وكل هذه الأوصاف التي تُطلق عليهم، والتي تقود إلى مكان واحد، إنْ بَعُد أو قَرُب عن أرض الطفولة، يبقى شتاتاً بعيداً عن الجذور، وموتاً في أرضٍ غريبة. لكنْ، ماذا عمَن يرفض هذا الانخلاع القسري؟ كيف يبرّر موقفه لأسرته، الراغبة في النزوح، بينما حارتُه خلتْ من كل شيءٍ حيّ، والماء أوّله، والقصف العنيف يغتال كلَّ أملٍ في البقاء؟
فكرةٌ لها جاذبيتها، وتلقى تقبّلاً آنيّاً، وتهيأ لاستقبال إيجابيّ لفيلمٍ يطرحها. لكنّها، للأسف، توارت تماماً، تاركة المكان لمحاور أخرى، كتمرّد زوجة، وفانتازية علاقة حالمة بين فتاة وفتى. إنْ يكن المحور الثالث أفضل ما في "نزوح"، بإضفاء شيءٍ من الخيال على حياةٍ غير محتملة، فالمحوران الآخران لا يتمتّعان بالقيمة نفسها، لا سيما موضوع النزوح، الذي تمّ التعامل معه بخفّة وسخرية. ربما يفرض موضوع مأساوي خياراً كهذا، أحياناً، وهذا فعلته كعدان، لكنّ خفّة المعالجة لا تعني تسطيحاً لها، واللجوء إلى الهزء والمبالغة في رسم شخصيات رئيسية، لإبراز تركيبتها الأخلاقية والنفسية، لا يعني إظهارها بصورة كاريكاتورية نمطية، بعيدة عن العمق والإقناع.
هذا يتمّ مع أبّ (سامر المصري)، في عائلة سورية تقليدية. جُلّ مواقفه تدعو إلى السخرية. ما يهمّه، مثلاً، من حفرة هائلة في شقّته أحدثها قصفٌ على المنطقة، تدبير ستائر بأسرع ما يُمكن، كي لا تظهر زوجته (كندة علوش) وابنته المُراهقة (هالة زين، في أداءٍ رقيق وجميل) أمام جيران ظهروا فجأة. ففي بيتٍ يغطّيه رماد وغبار وجدران متهاوية، غطاء الرأس أول ما يصرخ به عند إدراكه أنّ هناك من بقي حيّاً في الجهة المقابلة.
المشكلة أنّ الشخصيات الثلاث لا تقنع في تعبيرها عما أريدَ لها أنْ تعبّر عنه، أي البيئة الشعبية المتمسّكة بالتقاليد، لا في مظهرها (أزياء كاشفة للزوجة، وأنيقة وعصرية للابنة)، ولا في سلوكها، كأنْ يقبل أبٌ كهذا، عطوف ومُحبّ، تزويج ابنته، البالغة لتوّها، من مُقاتل شاب. كأنّ هذا المُبرّر أقحم فقط لتغيير مسار الفيلم. تبدو شخصية الأبّ نمطية في صفاتها، قوية ظاهرياً وضعيفة باطنياً، مُدّعية المعرفة وحُسن التصرّف في كلّ شيء، وفاشلة في معظم مساعيها إلى تدبير الأمور. تفرض أوامر لا، تُنفَّذ غالباً. إنها، باختصار، مدعاة للهزء، لدرجة تبعث معها على ردّ فعل عكسي. تثير الشفقة بدلاً من الحنق، والتعاطف بدلاً من النفور، لا سيما في محاولاتها إرضاء طلبات الأسرة، لمنعها من التفكير بالنزوح، الذي تُلحّ عليه الزوجة.
لم يهتمّ "نزوح" بمعالجة مُقنعة لرفض الأبّ الرحيل. إنه يكره كلمة "نازح"، ومُستعدّ لفعل كلّ شيءٍ، كي يُقنع عائلته بالبقاء في مكانٍ، لم يبق فيه أحدٌ، كما تعلّق الزوجة. هذا أيضاً بعيدٌ عن اللإقناع، إذْ لم يُسمِّ الفيلمُ المطرحَ. لكنْ، كيف يُمكن، مع كلّ هذه الأبنية، أنْ يكون خالياً على هذا النحو؟ أين الناس؟ لم يبق منهم، وهذا لزوم السيناريو (كتابة كعدان)، إلاّ عائلة الصبي (نزار العاني، اللافت للانتباه هو أيضاً في أدائه) صديق الابنة. عائلة الفتى لم تُثر التفاتة الفيلم، ولو أنه يُمكن التخمين، من خلال سلوكه وشكله، أنّها عائلة متوسّطة ومنفتحة، وهذا فقط محطّ الاهتمام.
كلّ ما عُرف عن المكان، بسبب القصف، أنّه خاضع للمعارضة. تجنُّبُ تسميته اختيارٌ لعدم الوقوع في متاهة الإحالات السياسية بين معارضين ونظام. هذا لم يمنع تعليقات تدين الطرفين. لم يظهر من الجيش سوى قوّته في التدمير، ومن المعارضة سوى سلبيّتها. من مقاتل يريد الزواج من الفتاة الصغيرة، إلى آخر بدا أحمق جاهلاً بطرحه أسئلة سخيفة، ويتصرّف بهبلٍ أمام الوسائل الحديثة في الحرب، كطائرة الـ"درون" (رغم أنها آتية من المكتب الإعلامي للثورة، لكنّ هؤلاء شيء، والمقاتلين شيء آخر، كما يجب الاستنتاج هنا).
حسناً. ليست السياسة هدف سؤدد كعدان، في فيلم "إنساني"، عن الإنسان السوري، وبالأحرى المرأة السورية، التي هي اليوم مركز اهتمام الجميع، لا سيما حين تقرّر التمرّد بعد خضوع (وإن كان خضوعها لزوج ضعيف، كما أظهره الفيلم)، وحين تأتيها الشجاعة والبطولة فجأة لكسر كلّ التقاليد. هذه قضية مرغوبة اليوم، حتى لو تطلّب الأمر مشاهد تدعو إلى السخرية. مشاهد كتلك التي تحمل فيها الزوجة حذاءها الأحمر، ذا الكعب العالي، ومعطف الفراء في كيس زبالة أسود، بدا صغيراً على محتوياته، بعد قرارها الرحيل واصطحابها ابنتها، فجَالَتَا في الليل في منطقة مهجورة تماماً، ومُهدّدة بالقصف. تركهما الزوج "المسكين"، الذي يركض وراء السيارة التي تقلّهما إلى بحرٍ، لطالما حلمت الزوجة برؤيته، وهو يتوسّل الانضمام إليهما خاضعاً ومذلولاً ومُقسِماً على الطاعة. لم يكفِ هذا، فإمعاناً في إهانته، تنضمّ الابنة إلى أمها في رفض اصطحابه، إلا حين جذبها بفكرة تعليمها الصيد بالصنّارة.
إنْ نجحت كعدان في إدارة الممثلين، الذين أدّوا الأدوار المرسومة لهم بأمانة، فالإقناع بشخصياتهم بدا أصعب، في فيلمٍ جاء أقلّ طموحاً من الأول، في تردّده بين الخيال والواقع، وبين الانحياز وعدمه. وإنْ نجح في إضفاء لمسة سحرية مُحبّبة، من خلال علاقة الفتاة بالفتى، فالمواقف الواقعية لم تبعث إلا على السخرية. فظهر "انتصار" المرأة السورية على حساب الرجل بشكلٍ سخيف، كأنّه لا يُمكنها تحقيق رغباتها إلا بإهانته على هذا الشكل الكاريكاتوري. وفي قصّة عائلةٍ سورية، تضرّرت من الحرب، وبات مستحيلاً عليها عيش حياة طبيعية مع الدمار، فلم يبقَ أمامها إلا النزوح، كان صعباً تجنّب السياسة وانحيازاتها. لذا، أُقحمت عبارات متوازنة، لتزيح عبء التجاهل التام.
"نزوح"، المعروض في الدورة الـ28 (3 ـ 10 مارس/آذار 2023) لـ"مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسّط"، دراما مُفرطة في الاعتماد على الفكاهة، في محاولة لإخفاء ضعف السيناريو وهناته الكثيرة. لا تُضفي جديداً على وضعٍ بدأ منذ 10 سنوات، بينما كان يُمكن استكشاف زوايا جديدة، تبدي تطوّراته وواقع الحال (هؤلاء الذين بقوا)، اجتماعياً على الأقلّ.