قد لا يكون اسم الموسيقي والناشط الحقوقي والسياسي هاري بيلافونتي الذي رحل صباح الثلاثاء الماضي مألوفًا عند الأجيال الجديدة، إلا أن الموسيقي الجامايكي كان واحدًا من أكثر الفنانين تأثيرًا في عصره، خاصة من ناحية جهوده في تعميم نمط كاليبسو (Calypso) الموسيقي مع ألبومه الذي يحمل العنوان نفسه، والصادر عام 1956.
يمثّل كاليبسو نمطاً موسيقياً نشأ في جزر البحر الكاريبي للتعبير عن النضالات اليومية لسكانها ونقد التفاوتات العرقية والاقتصادية في تلك الجزر. لم ينجح بيلافونتي في جعل الأغنية الجامايكية شعبية ورائجة فحسب، بل كان ألبومه الأول من نوعه الذي يبيع أكثر من مليون نسخة، معلنًا عن صانعه واحدًا من مطوري علم الموسيقى ومبدعيها.
لبيلافونتي عديد من الأغنيات التي حققت نجاحًا هائلًا في الولايات المتحدة الأميركية وخارجها، واعتبرت بمثابة نصوص مقدسة للمنحدرين عن أصول أفريقية، ومنها أغنية Banana Boat Song، وJamaica Farewell، وغيرها من الألحان المصنوعة بحرفة موسيقية عالية، ونغمات تتراوح بين البلوز والفولك والغوسبل وأناشيد العمل والألحان الأفروأميركية، وغيرها من أساسات الموسيقى "البروليتارية" التي سعى بيلافونتي ومعاصريه إلى الوصول إليها بوصفها أداة من أدوات التعبير السياسي.
حاز بيلافونتي العديد من الجوائز الفنية والإنسانية المرموقة، بما في ذلك جائزة غرامي وجائزتا توني وإيمي، وكُرم مرارًا عن جهوده في العمل الإنساني والتطوعي، لكنه عُرف على نطاق أوسع بعمله السياسي ومواقفه الراديكالية والصارمة، إذ دعم حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأميركية خلال الخمسينيات والستينيات، وكان أشد المنتقدين لجورج دبليو بوش، واصفًا إياه بـ "الإرهابي الأعظم في العالم"، في تصريح ترأس الأخبار عام 2006، وكذلك اتخذ موقفًا حادًا من باراك أوباما مع تسلمه الحكم الأميركي وبعده دونالد ترامب، منتقدًا على الدوام الهمينة الأميركية والاستعباد في شكله المعاصر الإمبريالي. كما كان ملك الكاليبسو، كما لُقب، السبب الرئيسي في تسجيل أغنية We are the World التي وُجهت أرباحها الهائلة لمحاربة المجاعة في إثيوبيا في الثمانينيات، بمشاركة كل من مايكل جاكسون وستيفي وندر وبروس سبرينغستين وبوب ديلان وراي تشارلز وديانا روس.
ولد بيلافونتي في هارلم قبل أن ينتقل إلى جامايكا. والدته عاملة منزل اكتسب منها الكثير من وعيه الطبقي والسياسي، ومنحته تجربتها القاسية إصرارًا لمكافحة الظلم والتفاوت الاقتصادي. والده هجر البيت، تاركًا ذكرى أثقلت روح بيلافونتي حتى في أكثر أيامه شهرة ونجاحًا. كان أول رجل أسود يُسمح له بالأداء في عدد من الملاهي المعروفة بدعم من بعض الموسيقيين المعروفين، ومنهم مايلز ديفيس.
عمل بوابًا في مسرح American Negro Theater، ودرس لاحقًا التمثيل إلى جانب مارلون براندو وسيدني بواتييه. وفي حين كان من الممكن لتلك القصة المبهرة عن "نجاح الرجل الأميركي الأسود" أن تفيد سمعة "بلد الفرص المتكافئة"، وتثبت صحة مقولة المقدرات المتفردة وإمكانية مواجهة لعنة الفقر بالمجهود الفردي المتميز، إلا أن بيلافونتي لم يسمح لقصة حياته بأن تغدو أداة سياسية في أيدي الحكومات العنصرية وسياساتها في التبييض الثقافي، إذ تعمد الموسيقي الذي حضر في سينما الخمسينيات استكشاف المواضيع العرقية في أفلامه، ومنها Island in the Sun الذي لقي طاقمه تهديدات خطيرة بسبب وقوع بطل الفيلم الأسود (لعب بيلافونتي دوره)، في حب امرأة بيضاء.
في زمن لم يكن من المحبذ فيه أن تكون أسمر البشرة أو ناشطًا سياسيًا يساريًا، كان بيلافونتي كليهما، مثيرًا حنق العنصريين ومقدمًا نموذجًا استثنائيًا عن الالتزام السياسي، قل ما وجد بين أقرانه من الفنانين، إذ صادق بيلافونتي نيلسون مانديلا، ولعب دور الوساطة خلال جولته في الولايات المتحدة الأميركية لنشر الوعي وطلب التضامن ضد الأبارتايد، وارتبط سياسيًا وشعوريًا بمارتن لوثر كينغ، إذ رأى في مشروعه وأفكاره النيرة فرصة حقيقية للعدالة الاجتماعية وإنقاذ الإنسانية من العنصرية والاضطهاد.
تتحدث كثير من المراجع عن صداقة هذين الاثنين واجتماعاتهما المتكررة في الكنائس أو في منزل بيلافونتي، حيث يجد لوثر كينغ ملجأً من مسؤولياته المضنية، حتى إن بعضها يشير إلى دور بيلافونتي في دعم الحملات وتنظيم التبرعات لحركات الحقوق المدنية خلال الستينيات. في رثائها لبيلافونتي، صرحت ابنة مارتن لوثر كينغ عن دعم الراحل لعائلاتها بطرق عديدة، إلى درجة أنه كان يدفع أتعاب جليسة الأطفال لها ولأقربائها. شن بيلافونتي حملات للتوعية حول فيروس الإيدز في أفريقيا أيضًا، وكان مناصرًا لفيديل كاسترو وغيره من الشخصيات اليسارية المعروفة آنذاك.
بصرف النظر عن مدى انخراطه المباشر وتوغله في عالم السياسة، من المؤكد أن بيلافونتي اعتبر الفن امتدادًا للخطاب السياسي وشكلًا من أشكال المناصرة. وعندما سئل في الإذاعة الوطنية العامة عن كيفية تحوله من فنان إلى ناشط حقوقي، رد بأنه كان ناشطًا قبل أن يكون فنانًا حتى. الفن عنده وسيلة للتعبير السياسي وللمقاومة. في إحدى مقابلاته، قال بيلافونتي: "أعطتني الموسيقى فرصة لإبداء تعليقات سياسية وللإدلاء بتصريحات اجتماعية والتحدث عن أشياء وجدتها غير سارة وأخرى وجدتها ملهمة".
لا تختلف تلك الرؤية عن نهج معلمي بيلافونتي، وفي مقدمتهم الموسيقي الباريتون والناشط بول روبسون، وغيره من موسيقيي هارلم الذين لم يكن من الممكن وضع حد فاصل بين مشروعهما السياسي والفني، وقد رفضوا تمامًا شعار "الفن من أجل الفن"، وفصل السياسة عن الموسيقى وغيرها من المبادئ التي ميزت مدرسة فيينا الموسيقية الثانية وأرست معايير الفن المعاصر.
خلافًا لتلك الدعوات، اعتبر بيلافونتي الراديكالية في الفن مفتاحًا للنضال السياسي، وغالبًا ما أشار إلى أن انعدام هذه الأخيرة من التحركات السياسية المعاصرة، هو سبب رئيسي للإخفاق والإحباط اللذين يلفان العالم الحديث.
فقد العالم مع رحيل بيلافونتي نجمًا سينمائيًا وموسيقيا ثوريًا دعا دومًا إلى التمرد بوصفه ممارسة صحية للإنسان وضرورة حتمية للعاملين في المجالات الفنية. مسيرته الطويلة والمليئة بالمطبات السياسية والاجتماعية على طول قرن تقريبًا أحيت الروابط المهملة بين السياسة والفن، وأكدت على قدرة هذا الأخير أن يغدو أداة تغيير لاعنفية في عالم سيفتقد بيلافونتي بشدة، لكنه يجد العزاء في موسيقاه الباقية أبدًا.