قبل يومٍ من حصول فيلم "الصبي والبلشون" The Boy and the Heron الصادر عام 2023 للمخرج الياباني هاياو ميازاكي (1941) على السعفة الذهبيّة الفخريّة في مهرجان كان السينمائي، عُرض الفيلم الوثائقي "هاياو ميازاكي والبلشون" Hayao Miyazaki and the Heron في قسم الكلاسيكيات في المهرجان. وكالعادة، عند ذِكرِ اسم استديو غيبلي (منتج أفلام ميازاكي)، تكتظّ صالات العرض بطيفٍ من المشاهدين لا مثيل له من الأعمار والطبقات والأعراق جميعاً.
مخرج هذا الوثائقي يدعى كاكو آراكاوا، وكان قد خصَّص مسيرته الفنيّة المكونة من أربعة أفلام وثائقية طويلة لمتابعة ميازاكي قبل وخلال وبعد مرحلة صناعة أفلامه. انتدبت مؤسسة التلفزيون الياباني الرسميَّة (NHK) كاكو مخرجاً رئيساً لهذه الأفلام. والأبواب التي فُتحت أمام كاميرته، لم يحدث قبل أن فُتحت أمام أحد. يرصد "هاياو ميازاكي والبلشون" يوميات صناعة الفيلم الأخير لسيد الرسوم المتحركة، وأحد أكثر الفنانين تأثيراً في عالمنا المعاصر، خلال ست سنوات (2399 يوماً بالضبط). تابع كاكو أدق التفاصيل، وصوَّر مئات الساعات، ليستخلصَ منها ساعتين، لا يسعنا تشبيهها سوى بمرثية طويلة كتبها ملاك الموت. في متابعاته الوثائقية السابقة، لا يجري كاكو العمليَّة الحثيثة عبر أسئلة مباشرة، أو مشاهد مجهزة مسبقاً. يبدأ كاكو بلقطات سريعة من ثلاث مناسبات مختلفة، أعلن فيها ميازاكي اعتزاله. ويتابع المخرج الياباني خلال مناقشاته في كل مراحل الإنتاج وخلال عملية الرسم اليدويَّة المضنية، فكان العمل بمضمونه الفريد نظرة متعمقة على عملية ميازاكي الإبداعية.
يمثّل الاستديو الذي أسسه في طوكيو عام 1985 كل من ميازاكي وتوشيو سوزوكي (1948) وإيزاو تاكاهاتا (1935 - 2018) البوابة لعوالم ميازاكي التي صنعها عبر 12 فيلماً طويلاً من دون المساومة على الجودة. نستطيع اعتبار "هاياو ميازاكي والبلشون" مدخلاً لمكنونات ميازاكي، إذ نتابعه وهو يرزح تحت ضغط هائل بسبب إصراره على إدارة كل عمليات صناعة الفيلم، من تصميم وتحريك ورسم ونص وتسجيل صوتي وموسيقى تصويريّة. حصل فيلم "الصبي والبلشون" على جائزة أوسكار هذا العام، بعدما حصل على جائزة أوسكار عام 2004 ورفض تسلمها بسبب الاحتلال الأميركي للعراق.
منذ أن ظهر العرض الترويجي للعمل، سال كثير من الحبر نقاشاً ومتابعة وتحليلاً لأعمال الاستديو عموماً، وأفلام ميازاكي خصوصاً. وكانت الخلاصة في النهاية آلاف المقالات ومئات الكتب بكل اللغات، وما لا يمكن حصره من كتب ومقالات ومقابلات أُنجزت باللغة اليابانية.
لم يتبق سوى توشيو سوزوكي من جيل الفنانين الذين عاصروا ميازاكي، فأتى فيلم الأخير وقفة على أطلال الماضي. وزعت شخصية سوزوكي على كثير من شخصيات أفلام ميازاكي، فكان الذي يغادر دائماً لتنفيذ المهمات والمغامرات خارج الاستديو، بينما ميازاكي حبيس مكتبه يرسم بلا توقف. لكنه في فيلمه الأخير، "الصبي والبلشون"، كان نواة الشخصية المساندة للولد ماهيتو، طائراً مخادعاً ماكراً لثته ظاهرة وبارزة، وله كرشٌ كبير، ويستطيع إقناع ميازاكي دائماً بطرق ملتوية. تتمحور قصة الفيلم حول حياة صبي في الحادية عشرة من عمره يُدعى ماهيتو، ينتقل مع والده من طوكيو إلى الريف بعد وفاة والدته في حريق. هناك، يلتقي طائر البَلَشُون (المعروف بمالك الحزين) ليصبح مرشداً له، ويرافقه في رحلة التعرّف إلى أسرار الحياة التي تشكّل السمة المميزة لحكايات ميازاكي. يعيد الفيلم الوثائقي بناء المراحل الجمالية والسردية للعمل، ويتحول رويداً رويداً إلى مرثية جيل كامل ومراجعة لكل المفاصل الحاسمة في حياة ميازاكي.
اللافت أيضاً في العمل أن رائحة الموت تطغى على كل شيء، ويبدو أن قلق المخرج الياباني تضاعف إلى حد الهذيان بعد رحيل إيزاو تاكاهاتا عام 2018 (صاحب فيلم Grave of the Fireflies) وهو شريكه وصديقه والمسؤول الأول عن تفجير موهبته. نراه في منزله يبحث عن ممحاته، ويتهم تاكاهاتا (باكو-سان) باستعارتها بعد أن تحول إلى إله الرعد. التمثيل الأسمى لتاكاهاتا، عبر ريشة ميازاكي، هو دور العم في الفيلم، وهو من يحمي قوانين عالمنا الطبيعي. من ناحية أخرى، نرى لقطات أرشيفية لياسودا ميشيو، صديقة ميازاكي المقربة ومصممة الألوان في الاستديو، رحلت نتيجة إصابتها بالسرطان، وتركت وصية واحدة له، تطلب منه فيها صناعة عمله الأخير؛ فتجلت شخصيتها في العمل بدور كيريكو، المرأة الشجاعة المغامرة، كما كانت في الحياة، وفيها خصال لا تعد ولا تحصى من الشخصيات الأنثوية التي خلقها المخرج الياباني في أفلامه.
المونتاج الفريد للعمل يدفعنا الآن إلى طرح السؤال الآتي: أين ميازاكي من كل هذا؟ في فيلمه الأخير هو الولد ماهيتو، بكل تردده وشجاعته والتزامه وحزنه العميق على أمه المريضة. وفي الفيلم الوثائقي يبدو أن البحث عنه أصعب بكثير من البحث عنه في شخصيات أفلامه، فالخط الفاصل بين الواقع والخيال قد أصبح ضبابياً، ولم يعد هو واثق إن كان كثير من ذكرياته مع أبناء جيله قد حدث في الواقع، أو مرّ في مشهد من فيلمٍ ما أنتجه الاستديو، ومن الجلي أنه غرق في العوالم التي ابتكرها وأهداها للبشرية.