- تراجع نفوذ هوليوود السياسي في السنوات الأخيرة، خاصة بعد فوز دونالد ترامب في 2016، مع تزايد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي واعتماد المرشحين على منصات مثل إكس وفيسبوك وإنستغرام.
- الانقسام الاجتماعي بين الجمهور الليبرالي في المدن الكبرى والجمهور الريفي المحافظ، و"ثقافة الإلغاء" داخل هوليوود، ساهم في تراجع تأثيرها وتحدياتها في استعادة دورها التقليدي.
في أوائل القرن العشرين، كانت هوليوود القوة الناعمة التي تحرك الثقافة والسياسة الأميركية. وكان النجوم بمثابة أيقونات تجذب الجماهير وتؤثر على الرأي العام بقوة لا ينافسها نجوم أي قطاع آخر، بما فيها الرياضة. ومع كل انتخابات، كان يبدو أن الكلمة التي يقولها نجم أو نجمة قادرة على التأثير على فوز مرشح معين أو خسارته.
ولعلّ هذا الأثر ترجم بصُور مباشرة كثيرة أبرزها رونالد ريغان الذي كان ممثلاً معروفًا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. شغل منصب حاكم ولاية كاليفورنيا من عام 1967 إلى 1975، قبل أن يصبح الرئيس الأربعين للولايات المتحدة (1981-1989). وقد أعادت مسيرته السياسية تشكيل التيار المحافظ في الولايات المتحدة وسياسات الحرب الباردة. مثال مباشر آخر هو أرنولد شوارزنيغر الذي شغل منصب حاكم ولاية كاليفورنيا من عام 2003 إلى 2011 بعد فوزه في انتخابات العزل التي أطاحت بالحاكم غراي ديفيس. عمله السياسي جاء بعد سنوات من النجومية في هوليوود، ما سهّل عليه الوصول إلى منصبه.
طبعاً بالإمكان تعداد عشرات الأمثلة على التأثير غير المباشر للمثلين في هوليوود، من خلال التأثير على قضايا المناخ (ليوناردو ديكابريو)، والمساواة العرقية (أوبرا وينفري)، وغيرها... لكن عام 2016، حصل ما لم يتوقّعه أحد، وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض رغم معارضة شبه كاملة من هوليوود ونجومها. وبينما حاول النجوم تكرار محاولتهم في انتخابات 2020 بدعمهم الكبير لجو بايدن وكامالا هاريس، بدا أن تأثيرهم السياسي قد تضاءل بشكل لافت. هذا التحول أشار بوضوح إلى تراجع ملحوظ في "سلطة" هوليوود السياسية، التي كانت لعقود طويلة أحد العوامل المؤثرة في الانتخابات الأميركية.
يمكن اعتبار فوز ترامب في 2016 بداية لنهاية نفوذ هوليوود السياسي على الساحة الانتخابية الأميركية. على الرغم من أن غالبية النجوم والشخصيات البارزة في هوليوود مثل روبرت دي نيرو (وصف ترامب بالغبي في مقابلة مع كريس والاس) وميريل ستريب (انتقدته في جوائز غولدن غلوب عام 2017، ووصفته بالمتنمّر) تحدثوا بصراحة ضد الرئيس الجمهوري، إلا أن رسائلهم لم تصل إلى الطبقات المتوسطة والريفية التي شكلت قاعدة دعمه. كانت هذه القاعدة تتألف بشكل أساسي من الناخبين الذين يشعرون بالانفصال عن الثقافة النخبوية التي تمثلها هوليوود ونجومها، ويرون في ترامب مرشحًا "مناهضًا للنخبة"، أي شخصًا يتحدث بلغتهم ويفهم مخاوفهم.
هوليوود التي لطالما انحازت للقضايا الليبرالية والاجتماعية، وجدت نفسها فجأة في مواجهة مع قوى سياسية واجتماعية جديدة. ترامب لم يكن مجرد مرشح آخر؛ بل كان يعكس تحولًا جذريًا في السياسة الأميركية، حيث استطاع استغلال مشاعر الغضب والإحباط لدى شريحة كبيرة من الأميركيين تجاه ما يعتبرونه نخبة منفصلة عن الواقع اليومي. على الرغم من أن هوليوود حاولت أن ترد من خلال دعم هيلاري كلينتون بصفتها أول امرأة تملك حظوظاً بالوصول إلى رأس أعظم دولة في العالم، إلا أن هذا الدعم فشل في حشد الناخبين بطريقة فعالة.
كانت هذه أولى مؤشرات تراجع نفوذ هوليوود، الذي وصل إلى ذروته ليلة الثلاثاء ــ الأربعاء مع الفوز الكبير لدونالد ترامب على المرشحة الديمقراطية ونائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس. نجحت هاريس في حشد أكثر النجوم شعبية، نتحدّث هنا عن تايلور سويفت التي تعتبر الشخصية الشابة الأكثر تأثيراً في الجيل زد، حول العالم، نتحدّث أيضاً هن بيونسيه أيقونة النساء السوداوات في أميركا والعالم، نتحدّث عن أريانا غراندي، وبيلي أيليش، وغوين جونسون، وأوبرا وينفري، وتوم هانكس، وليدي غاغا، وجينيفير لوبيز، أي أيقونات الثقافة الشعبية الأميركية، سواء في عالم التمثيل أو الموسيقى، ووجوه ساهمت في رسم ثقافة الجيل الشاب في الولايات المتحدة. وقف هؤلاء بشكل مباشر مع هاريس ودعوا جمهورهم إلى التصويت لها... لكن كل هذه الأصوات، فشلت مجدداً في معركتها الانتخابية، لصالح مرشح آخر، هو دونالد ترامب.
تأثير مواقع التواصل
إلى جانب ما سبق، ازداد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الساحة السياسية، ما جعل هوليوود أقل أهمية. في العقود السابقة، كانت هوليوود وسيلة رئيسية لإيصال الرسائل السياسية، حيث كان المرشحون يعتمدون على النجوم للترويج لحملاتهم. لكن اليوم، بات المرشحون يمتلكون وسائل جديدة للتواصل المباشر مع جمهورهم عبر منصات مثل إكس، وفيسبوك، وإنستغرام. ترامب، على سبيل المثال، اعتمد بشكل كبير على المنصات لنقل رسائله بشكل مباشر للناخبين، متجاوزًا بذلك الوسائط التقليدية التي كانت تدعمها هوليوود.
وسائل التواصل الاجتماعي لم تعزز فقط التواصل المباشر بين السياسيين والناخبين، بل سمحت أيضًا بظهور "المؤثرين" الرقميين الذين أصبحوا أكثر نفوذاً من النجوم التقليديين في هوليوود. هؤلاء المؤثرون يمتلكون قدرة هائلة على تشكيل الرأي العام والتأثير على الناخبين، حيث يتابعهم ملايين الأشخاص عبر المنصات الرقمية، وهم غالبًا ما يكونون أكثر قربًا للجمهور من المشاهير التقليديين.
وأدرك الحزب الديمقراطي ذلك بشكل واضح في هذه الانتخابات، فدعا 200 مؤثر لتغطية المؤتمر الوطني الديمقراطي. وكان هؤلاء قادرين على الوصول إلى أكثر من 500 مليون حساب مختلف عبر وسائل التواصل، بحسب موقع بوليتيكو، نظراً إلى عدد متابعيهم الكبير. وقد خاطب الحزب مئات المؤثرين باللهجة التي يحبونها، وباللغة الشبابية التي يتعاملون بها في يومياتهم، فنجح في جذب شخصيات شهيرة على الإنترنت من طينة كريس أولسن، نجم تيك توك (13 مليون متابع)، الذي استخدم حس الفكاهة والتعليقات السياسية في محتواه لدعم كامالا هاريس، فقدم القضايا السياسية بطرق بسيطة ومسلية تناسب الجيل زد. هاري سيسون أيضاً قدّم نفسه منذ إعلان ترشيح هاريس واحدا من أرز المؤثرين الداعمي لها. عرف الشاب في السنوات الأخيرة كيف يخلق لنفسه صورة السياسي الليبرالي المؤثر على منصات مثل إكس وتيك توك، فبات واحداً من الأصوات البارزة لدى الشباب الليبراليين. ركز منذ بدء الحملة الانتخابية لهاريس على تقديم تحليلات سياسية بشكل مبسط ومباشر، جاذباً جمهوراً كبيراً من الفئات الشابة التي تشارك معه اهتماماته حول القضايا المحلية والتوجهات الانتخابية.
من جهته، اعتمد ترامب على طينة أخرى من الـ"إنفلونسرز". طينة تشبع خطابه الأكثر شعبوية، واللامبالي بالصوابية السياسية. فكان أبرز داعميه الـ"يوتيوبر" جيك بول الذي عبر عن وقوفه خلف المرشح الجمهوري في مرحلة معينة، رغم أنه لا يرتبط بالتيار السياسي المحافظ كما قال. تعليقات جيك بول السياسية قوبلت بردود فعل مختلطة من جمهوره، لكنها حتماً أثرت على العشرين مليون مشترك في قناته على "يوتيوب".
الجمهور الليبرالي والجمهور الريفي
من بين الأسباب الرئيسية لتراجع تأثير هوليوود السياسي هو الانقسام المتزايد بين الجمهور الليبرالي المحافظ في المدن الكبرى والجمهور الريفي. يرى كثير من الأميركيين المحافظين، في هوليوود، "فقاعة ليبرالية" تعيش في عالم بعيد عن واقعهم اليومي، حيث تدفع بقضايا قد لا تتوافق مع قيمهم التي لا تزال محافظة. فدعم هوليوود لقضايا مثل حقوق المثليين وحق النساء في الإجهاض قد عزز هذا الانقسام، لا سيّما في المجتمعات التي يلعب فيها الدين عاملاً أساسياً، إذ ينظر هؤلاء كثير إلى هذه القضايا نظرة نقدية ويرون أن هوليوود تحاول فرض أجندة سياسية عليهم، ومحاصرتهم بآراء لا تتوافق مع قيمهم وقناعاتهم الاجتماعية والدينية والثقافية.
هذا الانقسام الاجتماعي يفسر أيضًا لماذا فشل العديد من المشاهير في كسب تأييد القاعدة الشعبية لترامب أو للمرشحين المحافظين. الجمهور الذي يدعمه هؤلاء المرشحون يرى في نجوم هوليوود ممثلين لقيم بعيدة عن حياتهم ومصالحهم، وهو ما يجعل الرسائل التي يبعثها النجوم غير فعالة في حشد الدعم السياسي، فعندما تقف نجمة بحجم وشعبية بيونسيه قرب كامالا هاريس في مهرجان انتخابي في هيوستن لتدافع عن حق النساء بالإجهاض، فإنها تخاطب شريحة معيّنة من النساء، شريحة لا تشبه نساءً أخريات في مجتمعات ريفية بعيدة، وبالتالي، فإنّ عادة نجم هوليوود، في مخاطبة الأميركيين بصفتهم شريحة واحدة ذات اهتمامات قناعات واحدة، لم تعد تجدِ نفعاً.
"ثقافة الإلغاء" وتأثيرها على هوليوود
في السنوات الأخيرة، تصاعدت أيضًا ما يُعرف بـ"ثقافة الإلغاء" داخل هوليوود نفسها، خصوصاً بعد موجة فضح المتحرشين الجنسيين داخل عالم صناعة الترفيه، وصعود حملة "مي تو". هذه الثقافة، التي تعني محاسبة النجوم والشخصيات العامة على تصرفاتهم وآرائهم الماضية أو الحاضرة، أثرت بشكل كبير على صورة هوليوود. في حين أن هذه الظاهرة تهدف إلى تعزيز المساءلة الاجتماعية، إلا أنها أظهرت مدى استقطاب المجتمع الفني نفسه. أصبحت الخلافات بين النجوم والمنتجين، وحتى الجمهور، أكثر علنية، مما أثر سلباً على تأثيرهم السياسي الموحد.
ورغم هذا التراجع، فإن هوليوود لا تزال تمتلك قوة ثقافية هائلة. الأفلام والمسلسلات التي تنتجها تظل جزءًا كبيرًا من تشكيل الهوية الثقافية الأميركية والعالمية. في الوقت نفسه، لا تزال هوليوود تسعى للتكيف مع التحولات الجديدة، سواء عبر تبني قضايا حقوق الإنسان والمساواة أو من خلال استكشاف قضايا سياسية واجتماعية عميقة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت هذه التحولات ستعيد لهوليوود قوتها السياسية السابقة أو أنها ستظل تواجه التحديات التي تعصف بها اليوم، وستكون عاصمة الترفيه في العالم مجرّد انعكاس للانقسام السياسي الأميركي الحاد؟
هوليوود بعد 2024
حتى بعد دعمها القوي لكامالا هاريس في انتخابات 2024، يبدو أن تأثير هوليوود السياسي لم يعد كما كان. فإن كانت نجمة بحجم تايلور سويفت التي كررت دعمها لهاريس في أكثر من مناسبة غير قادرة على دفع المرشحة نحو الفوز، فإنّ علامات استفهام كثيرة تطرح حول أثر مواقف الفنانين على رسم السياسات في الولايات المتحدة، والتأثير على الناخبين. الأمر نفسه ينسحب على بيونسيه، وجورج كلوني، وأوبرا وينفري الذين وقفوا جنباً إلى جنب مع هاريس، مقدمين الدعم المباشر لها.
إذ يبدو أن النجوم الذين كانوا في الماضي يستطيعون التأثير بشكل مباشر في نتائج الانتخابات، باتوا اليوم يواجهون جمهوراً أكثر تشكيكاً في نياتهم ومواقفهم. ومع استمرار الاستقطاب السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة، قد تواجه هوليوود مزيداً من التحديات في محاولتها استعادة دورها التقليدي في المشهد السياسي.
باختصار، تراجع تأثير هوليوود السياسي يعكس تحولًا أوسع في المشهد الأميركي، حيث تبرز قوى جديدة وتقنيات حديثة تعيد تشكيل العلاقة بين السياسة والثقافة، ومن المتوقع أن تتبلور صورة وتفاصيل هذا التحوّل تدريجياً في السنوات الأربع المقبلة، خصوصاً أنه بات واضحاً أن التأثير الأبرز في صناعة الرأي العام انتقل 530 كيلومتراً شمال هوليوود، أي في مركز ثقل آخر هو سيليكون فالي، التي باتت بملياراتها والمنصات التي تملكها المؤثّر الأكبر على الرأي العام في قضايا السياسة والثقافة والعدالة الاجتماعية، وما إيلون ماسك ودعمه السخي جداً لترامب سوى عيّنة صغيرة من هذا التأثير.