لمفردة "هَرْدَبشت"، السريانية الأصل، أكثر من معنى، تلتقي كلّها عند الفرد الذي يدلّ مظهره على الإهمال وعدم الاهتمام. هناك من يُلحِق المفردة بمن ينتمي إلى بيئة "منحطّة"، رغم أنّ وصف البيئة بهذا مُهين لاجتماعٍ وتربيةٍ، ينعكسان، في أول روائي طويل لمحمد دايخ، بعنوان "هَرْدَبشت" (2022)، في فقرٍ وتهميشٍ مفتوحين على عنفٍ، مبطّن وظاهر، وعلى مخدّرات وقهرٍ وانكساراتٍ وفوضى وانسداد أفق، وحصار خانق في حاضرٍ يوميّ مُثقل بآلام وتمزّقات وانشقاقات.
فيلمٌ يُتَعامل معه في مستويين: سينمائي واجتماعي. المستوى الثاني يعكس شيئاً من أحوال بيئة شيعية لبنانية، في منطقة الأوزاعي (الضاحية الجنوبية لبيروت)، الواقعة على شاطئ البحر، بالقرب من "مطار رفيق الحريري الدولي". منطقة مُهملة كلّياً، كمناطق عدّة في الجغرافية اللبنانية، يُظهر "هَرْدَبشت" شيئاً منها في سياق حكاية، تبلغ واقعيّتُها حدّ القسوة والأذية في مقاربة يوميات أناسٍ، لشدّة ما في الواقع من قسوة وأذية لهؤلاء الناس، ولغيرهم/غيرهنّ أيضاً.
الاجتماعيّ، في أول روائي لمحمد دايخ، غير مبنيّ على علمٍ وفكرٍ وتحليلٍ، بل على أمور يومية، يعيشها أناسٌ لن يكونوا، بأي شكلّ من الأشكال، اختزالاً للبيئة كلّها، لأنّهم نماذج مستلّة من الواقع، وتعيش الواقع، إلى جانب آخرين/أخريات. العنف، المبطّن والظاهر، آفةٌ لبنانية بامتياز، في الفرد والجماعة معاً. لكنّ "هَرْدَبشت" غير معنيّ بالخارج على تلك البيئة المتقوقعة في جغرافيا بائسة ومُذلّة للفرد والجماعة، وغير آبهٍ بشموليّة يتحرّر منها مع أفرادٍ قلائل يعكسون شيئاً من هذا الواقع بسلاسة بصرية، وابتعادٍ عن ادّعاء وتنظير وفذلكات سينمائية، فالأهمّ كامنٌ في سرد حكايةٍ، مألوفة في لبنان، تنفتح على تفاصيل قاهرة في بلدٍ مؤذٍ وقاتل.
في مقابل الاجتماعيّ، يخفّ الحسّ السينمائيّ لصالح بساطة واضحة في الاشتغالات الفنية والدرامية والتقنية والجمالية، من دون أنْ تعني البساطة تجاوزاً لحِرفيَة مهنية متواضعة، تروي حكاية 3 أشقاء يُقيمون مع والدتهم، في غيابِ أبٍ/زوج، ولعلّ الغياب، غير المهمّ سببه، يحول دون إنجاب مزيدٍ من الأبناء/البنات، في بيئةٍ معروفة بالعدد الكبير لأبناء عائلاتها وبناتها.
3 أشقاء، أحدهم، حمّودي (محمد عبدو)، متديّن، لكنّه مُجبر على العمل مع شقيقيه حسين (حسين قاووق) وأبو الفضل/عباس (حسين دايخ) في تجارة المخدرات. أم حسين (رندة كعدي) تميل إلى حمّودي أكثر، محاولةً حمايته من شقيقيه، اللذين يواجهان أهوال الحياة والبيئة والعالم بما يملكان من عفوية وبساطة ورغبة في خلاصٍ غير ممكن، كما يظهر لاحقاً. يحتالان على كلّ شيءٍ لتمضية عمرٍ لن يعرفا، أبداً، مساره ومصيره ونهايته.
لتجارة المخدّرات "زعيم" يُدعى طلال (غبريال يمّين)، تاجر خردة. لحسين "صديقٌ" مسيحي يُدعى المعلم طانيوس (فؤاد يمّين)، له محلّ لتصليح السيارات والدراجات النارية، وهذه الأخيرة علامة أساسية من علامات البيئة الشيعية نفسها. هناك أيضاً زكية (ألكسندرا قهوجي)، جارة أم حسين، الأنثى الأجمل في الحيّ، التي يرغب فيها رجال الحيّ وشبابه، بمن فيهم حسين، وزوجها علي (حسين حجازي) غير عارفٍ تعاملاً سليماً معها. وسعاد (ماريا ناكوزي) المحجّبة الـ"مُغرَمة" بحمّودي لسببٍ غير معروف (تنكشف هوية الشخصية لاحقاً)، ورواد (جوزف زيتوني)، الدركيّ الغاضب والمتوتر، الذي لن يتردّد لحظة واحدة عن ارتكاب "آثامٍ" عنفية لتنفيس غضبه وتوتره (لاحقاً، يُعرَف أنّ له والدة مُصابة باضطراب نفسي/جسدي، وأنّه هو نفسه من يرعاها ويهتمّ بها).
شخصيات قليلة، تكفي لتبيان معالم من تلك البيئة والنفسيات والعلاقات، في سياق عيشٍ يوميّ مبنيّ على الاحتيال والقلق والصدامات الحاصلة دائماً بين جيرانٍ في مبنى واحد، وبين أناس الحيّ. تمرير لقطةٍ لها علاقة بـ"غضب الأهالي" في ظلّ انهيار البلد (صورة للرئيس السابق ميشال عون، في مركز الشرطة، تُبيّن "زمن" أحداث "هَرْدَبشت") مُثيرة لبعض الضحك، لسخريتها من كيفية تعامل لبنانيين/لبنانيات كثيرين مع أحوال بلدهم ومآزقه. اتّخاذ موقفٍ من العدو الإسرائيلي تأكيدٌ على موقف البيئة الشيعية منه، رغم أنّ هذا غير مُفيد وغير مُقنع درامياً، ويبدو أنّه مُسقطٌ بالقوّة في السياق الحكائي/الدرامي، لإشهار موقفٍ سياسي/وطني، في مقابل إظهار سطوة "حزب الله" أولاً، و"حركة أمل" تالياً، على تلك البيئة.
لحظات التعبير عن شعور وقهر وضعف ورغبة في خلاصٍ منشود لكنّه مُعطّل، في لقطتين اثنتين لحسين وأبو الفضل، تعكسان، بما فيهما من صدقٍ (في المشاعر والأداء والتعبير، وهذا يُلغي الحدّ الفاصل بين التمثيل والواقع/الحقيقة لبراعةٍ في التمثيل، ولقسوة الواقع/الحقيقة)، تمنح النصّ (تأليف محمد دايخ، مُوَلِّف الفيلم أيضاً) متنفّساً إزاء كمّ هائل من عنفٍ وضغطٍ وآلامٍ مخفيّة، رغم أنّ في تلك اللحظات مزيداً من بطش العنف والضغط والآلام، التي يطمح الشقيقان إلى النفاد منها. الجانب السينمائيّ في "هَرْدَبشت" (تبدأ عروضه التجارية اللبنانية في 13 أبريل/نيسان 2023) يمتلك حِرفيّته، من دون إبهارٍ أو فذلكة. التصوير (فاطمة رشا شحادة) متناسقٌ وكيفية المزج بين النفسيّ في الشخصيات، والواقعيّ في سرد الحكاية والتقاط نبض كلّ فردٍ من أفراد تلك البيئة. لقطات مُقرّبة، تلغي كل فاصلٍ بين الشخصية/المشهد والمُشاهِد، وأخرى مفتوحة على مدى أوسع، كأنّ هناك رغبةً في تبيان ملامح البيئة وناسها وجغرافيّتها وفضائها. الاشتغال على الصوت (كمال كوثراني) يترافق، في تمعّنه الفني والدرامي في التقاط المطلوب، وموسيقى (إميل عوّاد) تساهم في إخراج المبطّن في ذات فردٍ وجماعة. الأداء، وبعض المشاركين في التمثيل غير محترف، يعكس سلوكاً لبيئةٍ، من دون تشاوفٍ أو تصنّع.
"هردبشت" (إنتاج "فينيسيا"، لأمير فوّاز) فيلمٌ يُسلّي، ويمنح في الوقت نفسه نظرة سينمائية مبسّطة، فنياً وتقنياً ودرامياً، عن واقعٍ قاسٍ ومؤذٍ.