استمع إلى الملخص
- نيكول تعترف بأنها ضحية قرارات سيئة وتكشف عن تأثير الأهل والمجتمع، ويعرض الفيلم لقطات لعلاجها من الإدمان، بما في ذلك تمارين النوم في المياه، مع موسيقى تصويرية لكريم خنيصر تعزز من تأثير الفيلم.
- رين رزّوق تنشغل بذاتها وعلاقتها بنيكول، ويعكس الفيلم تداخل الذاتي والعام في بلد يعاني من آثار الحرب الأهلية، مع تصوير راشيل نوجا وطلال خوري، ويشارك في مهرجان عمّان السينمائي الدولي.
جهدٌ يُبذل أعواماً عدّة، والنتيجة مُثيرة لمتعة مُشاهدةٍ، رغم قسوة النصّ السينمائي ومضمونه ومعالجته. هذا فعلٌ للّبنانية رين رزّوق، "واصلة (Hyphen)"، المعروض للمرّة الأولى في الدورة الـ13 (28 إبريل/نيسان ـ 4 مايو/أيار 2023) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية (السويد)". فيلمٌ مُصوّر في عشرة أعوام (2011 ـ 2021)، والحوار بين المخرجة ونيكول، قريبتها وصديقتها وجارتها سنين مديدة، يعكس جوانب حادّة من رحلتين تتناقض إحداهما مع الأخرى، فالثانية خروجٌ من جحيمٍ تغرق فيه نيكول، والجحيم مفتوحٌ على كلّ خرابٍ ممكن.
والحوار مفتوحٌ على تساؤلات وخيبات وآلام ورغبات، بعضها معطوبٌ بسبب فشل في تحقيقه، وبعضٌ آخر يكاد يتعطّل، فنيكول غير مانحة رين، دائماً، إنجازاً كاملاً لما تريده. لكنّ النتيجة فيلمٌ (98 دقيقة، 2023) مشغولٌ بدقّة منقِّب عن كنزٍ أو آثار، وفي رحلتي نيكول ما يُثير هاجساً سينمائياً في رين، التي تعثر فيهما على الأهمّ من كنز وآثار: حكايةٌ عن شابتين (نيكول ورين)، وعن أهلٍ وحربٍ سابقةٍ على سلم أهلي مخادع وناقص، وعن إدمان على مخدرات متنوّعة، تكتشف نيكول لاحقاً أنّ فعلها هذا غير صانع لها سعادة: "أفعل كلّ شيءٍ، لكنّي غير قادرة على أنْ أكون مبسوطة (سعيدة). لا أعرف. لم أقدر على أنْ أكون مبسوطة، ولم أعرف لماذا"، تقول في بدايةٍ لاحقة على أحد أجمل المَشاهد: جسد امرأة في مياه، وحركاتٌ قليلة لها توحي كأنّها راغبةٌ في ولادة جديدة.
لنيكول قولٌ إضافي يُكمِل اعترافاً كهذا، ويُحدِّد عنواناً أصلياً لرحلتيها القاسيتين: "(حينها) معتقدةٌ أنّي لا أتأثّر بمشاكل أهلي، أو بشيء". فالعلاقة بالأهل غير متشابهة البتة في مشاعر نيكول، والحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) فاعلةٌ في حياة وعيشٍ: "مؤكّد أنّ للأهل تأثيراً كبيراً، شئنا أم أبينا، في حياة أولادهم. (وهذا بسبب) المجتمع والخلفية الخاصة بهم". كلامٌ كهذا ردٌّ على سؤال رين لها إنْ تشعر أنّها "ضحية مجتمع أو تربية"، ونيكول غير راغبةٍ في اعتبار نفسها ضحية أصلاً، مع أنّها تختار تعبيراً آخر، ربما يكون الأقرب إليها: "أنا ضحية قرارات اتّخذتها"، قبل أنْ تقول، بالإنكليزية، إنّها ضحية Bad Decisions.
لقطات عدّة تكشف خضوع نيكول لعلاج، غير سهلٍ البتّة. تمارين النوم في المياه، ولهذا النوع من العلاج، بإشراف ديانا فرحات، تعبيرٌ يعكس الفعل الجوهري له: الولادة الجديدة، أو المولود الجديد. لقطات ترافق دقائق عدّة منه، يطغى فيها صمتٌ مع موسيقى (كريم خنيصر، مُصمّم الصوت أيضاً)، توحي برقّةٍ، فتُضيف جمالاً على معنى الحاصل أمام الكاميرا. كأنّ الجميع (نيكول وديانا ورين والمُشاهدون، وربما العاملون والعاملات في صُنع الفيلم أيضاً) يتشاركون أصعب اللحظات وأعنفها. إذْ أنّ التخلّص من إدمانٍ شبيهٌ للغاية بتلك الولادة المطلوبة والموعودة، وإنْ تُخشَى عودة إليه لاحقاً، ونيكول تعترف أنّ التعاطي بعد العلاج نادرٌ، فرغبتها في بدء حياة جديدة قوية وواضحة.
ما تفعله رين رزّوق غير متوقّف عند نيكول، فلها (رين) حضورٌ آخر غير ظهورها بين حين وحين، أو سماع أسئلتها وتعليقاتها غالباً. فالفيلم اغتسالٌ لها أيضاً، والبداية تقول إنّها غير عارفةٍ بإدمان قريبتها وصديقتها وجارتها سنين مديدة. تنشغل رين بذاتها أيضاً، وذاتها غير منفصلةٍ عن سيرة نيكول في رحلتيها. حضور المخرجة لن يحول دون سرد نيكول حكايتها، والحكاية غير ذاتية فقط، رغم أنّ الذاتيّ فيها طاغٍ. لكنْ، يستحيل فصل الذاتيّ عن العام في بلدٍ، أعطابه المُصاب بها بعد النهاية المزعومة لتلك الحرب الأهلية (يبدأ التصوير بعد 21 عاماً على تلك النهاية) أخطر وأشرس من تلك الحاصلة في حربه. الذاتيّ مفتوحٌ على أهل (رغم غضبٍ دفين إزاء أهلها، تُظهر نيكول في لحظات عدّة حبّاً وعاطفة وتبريرات) وبلدٍ وتاريخ واجتماع، كما على راهنٍ، يتميّز جحيمه بعنصرية وذكورية واهتراء وعفن.
في "واصلة"، المشارك في الدورة الخامسة (3 ـ 11 يوليو/تموز 2024) لـ"مهرجان عمّان السينمائي الدولي ـ أول فيلم"، تكشف رين رزّوق قدرة رائعة على التحكّم بما لديها من أسئلة وهواجس، ومن مادة بصرية، وابتكار مشاهد، مع أنّ عشرة أعوام (مدّة التصوير) غير سهلةٍ في اشتغال كهذا، وبعد التصوير أشهرٌ طويلة من تحويل المُصوَّر إلى فيلمٍ. كاميرا (راشيل نوجا وطلال خوري) تُرافقهما في أزقّة ومركز تأهيل، كما في روحٍ وانفعالٍ وقهرٍ، وسفرٌ إلى الهند تتكفّل نيكول بتصوير تفاصيل منه، وعنها أيضاً. زيارة إلى مركز التأهيل (أم النور)، تتجوّل نيكول في غرفه وفضاءاته، كما في ذكرياتها وأحوالها هناك.
أمكنةٌ ضيّقة تختارها رين، كأنّها تقول إنّ في الرحلتين ضيقٌ. عودة إلى منزل أهل، وصوت أبٍّ يُسمع، لكنّ الذي يُسمع أكثر، وإنْ بصوت نيكول غالباً، يقول أزمنة وانكسارات وتشوّهات، مع أنّ في الراهن توقٌ إلى الما بعد.
هذا قليلٌ من معاينة "واصلة (Hyphen)"، ومُشاهدته مرّتين لن تفشي كلّ ما فيه، وهذا كثيرٌ وقاسٍ وحقيقي.