"الحقيقة عن الحياة الحلوة"، للإيطالي جوزيبي بيدرسولي (1961)، أحد الأفلام القليلة في تاريخ السينما التي تتناول المُنتِج السينمائي، مُسلِّطةً الضوء عليه، وعلى دوره في صناعة السينما. فالأفلام عادة تهتمّ بالمخرج أو الممثل أو السيناريست، أو بكواليس التصوير. "الحقيقة عن الحياة الحلوة" (وثائقيّ دراميّ)، تحية لنموذج نادر من المنتجين، أصحاب الرؤى الخاصة، وعاشقي صناعة السينما، الملتزمين والمؤمنين بها.
احتفالاً بالذكرى الـ60 لعرض الفيلم الأيقونة في تاريخ السينما الإيطالية، "الحياة الحلوة" (1960)، ومرور قرن على ولادة مخرجه فيديريكو فيلّيني (20 يناير/ كانون الثاني 1920)، الذي حلّت الذكرى الـ29 لوفاته قبل أيام (31 أكتوبر/ تشرين الأول 2020)، قدّم المُنتج جوزيبي بيدرسولي أول فيلم وثائقيّ له عن جدّه، جوزيبي أماتو، أحد أساطير الإنتاج السينمائي الإيطالي، المعروف باسم بيبينو أماتو، الرجل الأكثر تقديراً واحتراماً في إيطاليا وخارجها، والأكثر حيوية وغزارة إنتاجية في السينما الإيطالية. اسمه يستدعي "روما مدينة مفتوحة" (1945)، لروبرتو روسّيليني، و"سارقو الدرّاجات" (1948)، و"إمبرتو دي" (1952)، لفيتّوريو دي سيكا، وغيرها.
يسرد "الحقيقة عن الحياة الحلوة" المخاض الإنتاجي العسير لإطلاق "الحياة الحلوة"، اعتماداً على وثائق أصلية كثيرة لم تُنشر سابقاً، موجودة لدى عائلة أماتو، ارتكز عليها الحوار والأحداث والبناء الدقيق للنصّ (كتابة بيدرسولي وجورجيو سيرافيني): رسائل وبرقيات متبادلة، سيناريو الفيلم، حسابات ختامية، محاضر اجتماعات الإنتاج، إلخ. كلّها مقروءة بتعليق صوتي، أو مسموعة بتسجيلات مباشرة في الاستديو، بفضل ممثلين محترفين. هذا لا يُثقل على الفيلم، ولا يُثير أي ارتباك أو ملل.
هناك أيضاً شهادات مباشرة للأبطال الأصليين، ولمن له علاقة بالفيلم أو بأماتو نفسه: ماريا أماتو، ابنة المُنتج ووالدة مخرج الوثائقيّ، وساندرا ميلو (ممثلة إيطالية)، ومارتشيلّو ماستروياني وبرناردو بيرتولوتشي وفيتّوريو دي سيكا وغيرهم. جميعهم يكملون الصورة بدقّة كبيرة، ويثرونها بتفاصيل بالغة، ويرون جوانب مختلفة من كواليس صناعة الفيلم، وطريقة عمل فيلّيني، وحياة أماتو وأسلوب عمله وتفكيره.
في نهاية خمسينيات القرن الـ20، لم تكن أمور فيلّيني على ما يرام. فاز بجوائز، كـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي عن "الطريق" (1954)، و"ليالي كابيريا" (1957)، لكنّها لم تشفع له لدى المنتجين، لمنحه ثقة ومالاً لازماً لصناعة "الحياة الحلوة"، الذي كتبه مع إينيو فلايانو وتوليو بينيلي.
صيف 1958، عرض فيلّيني السيناريو على أماتو، فأُعجب به فوراً، وشعر كأنّه عثر على كنز، وحَدس أنّه سيكون تحفة فنية خالدة. رغم حماسته، طلب من فيلّيني تكثيف السيناريو واختصاره، فوافق. المعضلة متعلّقة بالمنتج الإيطالي لويجي دي لورنتس، مالك حقوق الفيلم، الذي صرف عليه مليون ليرة إيطالية، والمتعاقد مع فيلّيني بـ"عقد احتكار" لـ4 أعوام. دي لورنتس ومستشاروه لم يعجبهم السيناريو، كما قال المنتج، بسبب تعقيده، والكلفة العالية لتنفيذه. في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 1958، أقنعه أماتو بفسخ تعاقده الاحتكاري مع فيلّيني، وبيعه حقوق "الحياة الحلوة"، مقابل منحه سيناريو "الحرب العالمية الأولى".
الأمر مُعجزة بالنسبة إلى فيلّيني وأماتو، الذي بات يحلم بتنفيذه. وعده فيلّيني بأنْ تكون الكلفة 400 مليون ليرة إيطالية فقط، فبدأ التصوير في "تشينيشيتا" (16 مارس/ آذار 1959). تدريجياً، ارتفعت الكلفة إلى 458 مليوناً، ثم إلى 543 مليوناً. كان يُفترض بالتصوير أنْ يتمّ خلال 14 أسبوعاً، وألا يتجاوز طوله 3000 م. لكنّ الميزانية بلغت 630 مليون ليرة إيطالية (700 مليون ليرة قبيل انتهاء التصوير، و800 مليون ليرة ككلفة نهائية)، وطوله بات 4000 م. رغم اكتمال التصوير بعد 20 أسبوعاً (في أغسطس/ آب)، أكمل فيلّيني تصوير مَشاهد داخلية، فباتت مدّته 4 ساعات. بهذا، أصبح "الحياة حلوة" الأضخم في تاريخ السينما الإيطالية لأعوامٍ طويلة.
مبلغٌ كهذا لم يكن بحوزة أماتو، فلجأ إلى الملياردير أنجيلو ريتزولي، المنتج وشريكه التاريخي وصديق عمره. أثناء تنفيذ الفيلم، نشبت صراعات جمّة بين ريتزولي وفيلّيني، وبين ريتزولي وأماتو، بسبب التكاليف الباهظة، وطول فترة التصوير. يكشف الوثائقيّ صلابة فيلّيني وتمسّكه بتنفيذ مشروعه مهما كانت التكاليف والمصاعب، وضرورة إنجازه باللونين الأبيض والفضّي، لا بالأسود والأبيض. كان يصرخ على المُنتِجَين، مُهدِّداً ومُطالِباً بالكفّ عن إزعاجه، وبتركه يعمل بهدوء وسلام. الصراع شاقّ وطويل ومؤلم، ومليء بالتهديدات والشتائم، ثم بمُصالحات ومشاجرات ووعود كاذبة ونقض اتفاقيات ومماطلة ومساومات.
حاول جوزيبي أماتو كثيراً إنهاء المونتاج في الموعد المحدد، قائلاً إنّ الموزّعين الخارجيين يضغطون لتقصير مدّة الفيلم، وموضحاً صعوبة العرض الجماهيري والتوزيع. بدوره، حاول فيلّيني إقناعه بأنّه يصنع تحفةً لا مثيل لها، فـ"تمزّق" أماتو بين احتواء عواقب كارثة اقتصادية وحتمية يبدو أنّها ستحدث، والدفاع عن عمل فيلّيني، الابتكاري غير المسبوق. أخيراً، وافق فيلّيني على 3 ساعات (مدّة الفيلم). الصعوبة الأكبر كانت في الديون المتراكمة على أماتو، وتخاذل الجميع أمامه، بمن فيهم أنجلو ريتزولي، ومطالبته باسترداد نقوده، والتهديد باللجوء إلى القضاء، فتعرّض أماتو لأول أزمة قلبية.
قوبل "الحياة الحلوة" بهجوم حادّ وانتقادات لاذعة في الصحافة الإيطالية. اعتُبر أحد أكثر الأفلام إثارة للجدل. كانت المرارة بالغة، نظراً إلى العناوين الفاضحة والمثيرة. هذا يتعلّق أساساً بكون المجتمع الإيطالي شديد المحافظة والتديّن، والفيلم نقيض هذا، ويتعارض مع عقيدة أماتو، شديد التديّن بدوره، الذي، قَبْل إنتاجه الفيلم، استشار قسيساً ونال بركته، فأفردت الصحف الإيطالية مساحات لهذا الخبر. لكنّ الأمور انقلبت كلّياً، بعد الفوز بـ"السعفة الذهبية" في مهرجان "كانّ" (1960)، وبدأ المشاهدون يحتشدون في صفوفٍ طويلة أمام الصالات، فعرف نجاحاً مدوّياً فاق التوقّعات والانتقادات كلّها. هذا أكّد حدس أماتو، وعناده وشجاعته، وأولاً إيمانه بفيلّيني وبسيناريو "الحياة الحلوة"، رغم انهياره الصحّي والمهني، الذي عجّل وفاته، إثر تعرّضه لأزمة قلبية ثانية (3 فبراير/ شباط 1964).
رغم كلّ شيء، لم يندم جوزيبي أماتو (أداء بارع للويجي بيتروتشي)، على ما كابده خلال إنتاجه الفيلم: "يُمكنني مُشاهدته آلاف المرات، لأنّ مُشاهدته أثبتت لي مجدّداً أنّي لم أكن مخطئاً". عبارة توضح أيّ نوع من المنتجين كان أماتو، الذي ظلّ يؤكّد، حتى وفاته، أنّه ليس على المنتجين صنع أفلامٍ ليصبحوا أثرياء، بل صنع أفلامٍ جيدة تجعلهم أثرياء لاحقاً.
"الحقيقة حول الحياة الحلوة" سريع ومثير وغنيّ بالتفاصيل، وكاشف عن الكثير. تجنّب جوزيبي بيدرسولي، ابن الممثل الإيطالي الشهير بود سبنسر، توجيه إدانات أو لوم لأيّ طرف، أو تأويل أيّ نوع من الوقائع والأحداث، أو إضفاء تفسيرات شخصية، مكتفياً بسرد الأحداث بمنتهى الأمانة والمصداقية، تاركاً الشخصيات تفصح عن هويتها الخاصة، المتّسقة مع ما يُعرف عنها.