منذ بدأ خطواته الأولى في ميدان تلاوة القرآن، قبل نحو 15 عاماً، لفت المقرئ المصري، الشيخ ياسر الشرقاوي، أنظار كل المهتمين بهذا الفن العريق. صوته القوي الممتد على مساحة ديوانين، وقفلاته المحكمة، وأداؤه المتشبع لأبعد حد بأسلوب الشيخ مصطفى إسماعيل، وتمسّكه الشديد بالسمت الرصين الأصيل للتلاوة، كلها كانت عوامل متضافرة، دفعت بالشرقاوي مبكراً إلى الصف الأول، وفتحت أمامه أبواب الإذاعة والتلفزيون. وقبل كلّ هذا، صار القارئ الشاب يمثل أملاً قريباً، يبشر من يعانون الإحباط واليأس بسبب ما أصاب "التلاوة المصرية" من تراجع وضعف، بأنّ إصلاح الحال ليس من المحال.
بدأ الشرقاوي رحلته مع تلاوة القرآن مبكراً، منذ كان يفتتح برنامج الإذاعة المدرسية، وهو ما زال تلميذاً في المرحلة الابتدائية. يقول إن هواية التقليد في الصغر كانت دافعاً لاهتمامه بأصحاب الأصوات العبقرية من قراء مصر الشهيرين. ويضيف، في حديث إلى "العربي الجديد": "كان صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد أشبه بالندّاهة (ساحرة أسطورية) التي أخذتني إلى عالم التلاوة. كنت أقلد طريقته التي تعلمتها من بعض تسجيلاته المنتشرة، وفي أواخر المرحلة الإعدادية بدأت إحياء الليالي احترافياً".
لكنّ الشرقاوي لم يُطل البقاء أسيراً لصوت الشيخ عبد الباسط، فقد أهداه شقيقه عدداً من تسجيلات الشيخ مصطفى إسماعيل، فانجذب إليها، وأخذ يجمع منها كل ما يقع تحت يده، ثم ألقى سمعه وروحه ووجدانه لصوت الشيخ مصطفى، وأنصت إليه إنصات تلميذ متلهف حتى تشرّب طريقته تماماً، من دون أي مقاومة أو محاولة للافتكاك من هيمنة الأداء المصطفوي القوي المؤثر.
ياسر الشرقاوي: كان صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد أشبه بالندّاهة (ساحرة أسطورية) التي أخذتني إلى عالم التلاوة
يرى ياسر الشرقاوي أن مدرسة الشيخ مصطفى إسماعيل كبيرة جداً، ويصعب الإحاطة بمعالمها، فالقارئ الناشئ ينهل منها من دون أن ينقطع عطاؤها. وبالفعل، خطا القارئ الصاعد عبر مدرسة إسماعيل خطوات سريعة نحو الشهرة والانتشار. لكنه بعد رسوخ قدميه، وتعمق ثقته، بدأ يُطعّم تلاوته بجمل إبداعية، يتحرر فيها من السطوة المصطفوية، من دون أن يخرج عنها خروجاً كاملاً.
يؤدي الشرقاوي تلاوته وفقاً لأساليب النغم العربي الكلاسيكي الموروث، يشبع المقام، ويختمه بقفلة حرّاقة ينفعل معها الجمهور. هذا الإتقان في أداء المقام العربي يفرض سؤالاً مشروعاً عن كيفية تحصيل هذه الدراية الفنية العملية. ويجيب الشرقاوي: "السماع هو الأستاذ الأول. السماع المستمر لتسجيلات كبار القراء. كان السماع أول طريق لمعرفتي بالمقامات. وكنت أعرف مدرس كيمياء في منطقة شبرا اسمه عم فاروق، سمعني مرة وأنا أصلي، فأعجب بصوتي، وكنت أزوره، ووجدت في بيته أعداداً هائلة من الشرائط والتسجيلات. ثم سمعني ذات ليلة وأنا أقرأ القرآن مجوّداً، فاهتم بي كثيراً، وبدأ يعرّفني بالمقامات وكيفية أدائها والانتقال بينها. كان موسيقياً رفيعاً في فهمه وذوقه".
يُعدّ الشيخ ياسر الشرقاوي واحداً من أبرز قراء الإذاعة المصرية، وتعكس مواقع التواصل الاجتماعي مدى اتساع متابعيه مع كل تلاوة له على الهواء، سواء في صلاة الفجر، أو الجمعة، أو بعض المحافل الدينية الكبرى؛ إذ تزدحم الصفحات المهتمة بفن التلاوة بآلاف التعليقات المرحبة والمشجعة. يروي الشرقاوي قصته مع الإذاعة: "كنت في زيارة لشيخ القراء الراحل أبو العينين شعيشع، وقرأت أمامه تلاوة قصيرة، ثم أسمعته الأذان بطريقته المعروفة. أثنى على أدائي، وقال لي: ستثري الإذاعة، ثم أحضر ورقة وكتب طلباً، وقدمه بنفسه لرئيسة الإذاعة. وبعدها بفترة دعيت للمثول أمام لجنة اختبار القراء، وبعد تأجيل، وتحديداً عام 2010، أصبحت قارئاً معتمداً في الإذاعة والتليفزيون. وفي يناير/كانون الثاني 2012 تلوت قرآن الفجر لأول مرة، من مسجد الإمام الحسين".
ياسر الشرقاوي: السماع هو الأستاذ الأول. السماع المستمر لتسجيلات كبار القراء. كان السماع أول طريق لمعرفتي بالمقامات
حديث الإذاعة، ولجان اختبار القراء بها، يفتح الباب لمناقشة مدى ما تتمتع به هذه اللجان من كفاءة وحياد، وقدرة على تطبيق معايير صارمة وموازين موحدة على كل من يمثُل أمامها. يرى الشرقاوي أن بعض الأصوات الجيدة لم تنل فرصتها المستحقة، أو نالتها بعد تأخير ومعاناة، وفي الوقت عينه فإن الأبواب فتحت أمام عدد من أصحاب الأصوات الضعيفة والأداء الركيك. ويطالب الشرقاوي لجان الاختبار بأن تتمسك بكل العناصر التي يجب توافرها في القارئ الإذاعي، من حفظ متين للقرآن الكريم كاملاً، وإتقان لأحكام التجويد، ودراية بأصول المقامات الموسيقية المستخدمة في التلاوة. يضيف: "مع الأسف الشديد، أصبحنا بحاجة إلى التنبيه على شرط حسن الصوت، فبعض القراء الشهيرين الآن لا يملكون أي قدر من الجمال الصوتي، لكنه يحقق الانتشار من خلال إرضاء سماسرة المآتم".
ويُرجع ياسر الشرقاوي أسباب التدهور الحالي في فن التلاوة المصرية إلى عدة عوامل، يأتي في مقدمتها ما حدث في حقبة الثمانينيات من توسع الإذاعة في قبول أصوات دون المستوى، وهيمنة هذه الأصوات على الساحة، ولا سيما بعد رحيل القراء الكبار جميعاً. وكان من أثر ذلك أن الأجيال التالية من القراء الجدد، صاروا يقلدون قراء الثمانينيات، رغم ضعف أدائهم، وطريقة إنتاج أصواتهم التي يغلب عليها طابع غير حضري.
من قبل اعتماده إذاعياً، فرض صوت ياسر الشرقاوي نفسه على الساحة في مصر وخارجها. وكانت أول رحلاته لإحياء محافل قرآنية خارجية عام 2006، حين زار تركيا وبعدها النمسا، ثم توالت زياراته لكثير من دول العالم ومنها ماليزيا، وكندا، وجنوب أفريقيا، وسويسرا، والسويد، والنمسا، وإيران، والعراق، ولبنان، والجزائر، والمغرب، وباكستان، وبرنواي، والبوسنة والهرسك وغيرها.
وفي بداية رمضان الحالي، غادر الشرقاوي مصر متوجهاً إلى ماليزيا لإحياء ليالي شهر رمضان.
يبدي الشرقاوي قلقاً بالغاً على سمعة التلاوة المصرية في الخارج. يرى أن حالة الهبوط العام التي تهيمن على فن التلاوة، وقدرة كثيرين من معدومي الموهبة على الانتشار والشهرة، من خلال السماسرة، والدعاية الرخيصة على مواقع التواصل الاجتماعي، وخلع الألقاب الوهمية والمزورة على بعض القراء، له أثر سلبي عند المستمع الواعي في كثير من البلدان العربية والإسلامية، إذ تتساءل الجماهير في كل مكان عما أصاب قراء مصر، ويستذكرون زيارات أعلام القراء المصريين، في الخمسينيات والستينيات، وكيف كان المستمعون في كل بقاع الأرض ينتظرون الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والآن، تغير كل هذا، وهو ما يعني -في نظر الشرقاوي- زيادة قدر المسؤولية على القراء المتمسكين بالقواعد الموروثة والنمط الكلاسيكي الأصيل.
لم يستطع ياسر الشرقاوي أن يذكر أكثر من ثلاثة أسماء من هؤلاء القراء المحافظين على معالم التلاوة المصرية، ويرى أن أحمد نعينع هو أبرز القراء في مصر والعالم خلال العقود الأخيرة، ويعتبره نموذجا للالتزام الدقيق بكل ضوابط القراءة تجويدياً ونغمياً.
يؤكد الشرقاوي ضرورة أن يبذل القارئ جهداً متواصلاً من أجل اتساع خياله النغمي، من خلال الاستماع إلى كلّ أشكال الأداء الصوتي الكلاسيكي من تلاوة وإنشاد، بشارف وسماعيات، وأدوار وموشحات، وليال وتقاسيم. هذا الاطلاع المستمر على التراث الموسيقي، يمثل برأي الشرقاوي ضمانة تحمي القارئ من الوقوع في فخ التقليد الحرفي. يوضح: "الفرق كبير بين الانتماء إلى مدرسة الشيخ مصطفى إسماعيل، مثلاً، وبين التقليد الحرفي لتلاوة الشيخ مصطفى. المدرسة تمثل إطاراً عاماً، وسعة الخيال النغمي تعين على الإبداع ضمن هذا الإطار".
على سبيل الهواية، أو من باب التدريب، يؤدي ياسر الشرقاوي أحياناً قصائد رائد الإنشاد الديني المصري، الشيخ علي محمود، رغم ما تتسم به ألحان هذه القصائد من صعوبات وتعقيد. وبالرغم من أن الرجل لم يطرح نفسه منشداً، ورفض بصورة نهائية مقترحاً ملحاً للاختبار منشداً في الإذاعة، إلّا أنّه يرى أنّ هذه الممارسة تصقل أداء القارئ، وتقويه، وتمرنه على تنظيم صوته، وتحسين تعامله مع المقام الموسيقي أثناء التلاوة.
بموهبته وصوته، استطاع القارئ المصري ياسر الشرقاوي، أن يؤكد المعنى الذي يردده المصريون كثيراً "مصر ولادة". كما استطاع أن يقدم برهاناً جديداً على أنّ القرية المصرية ما زالت قادرة على إبهار العاصمة والمدن الكبرى، بما تدخر من مفاجآت تخفيها بين الحقول وبيوت البسطاء. ولد ياسر الشرقاوي في قرية أخطاب، التابعة لمركز أجا في محافظة الدقهلية، في بيئة تهتم كثيراً بالقرآن وتجويده. والده القارئ محمود الشرقاوي حرص على تحفيظه القرآن مبكراً، ثم إتقان أحكام التجويد. ومن الدقهلية إلى القاهرة، ثم إلى الإذاعة، وبالأحرى، من أخطاب إلى العواصم العربية والأوروبية، يقدم ياسر الشرقاوي الأمل لعشاق هذا الفن.