لا جديد تحت شمس بيروت المحجوبة. غبار الفراغ قاتل. صمت الأزقّة يعكس أنيناً خافتاً من ألمٍ وجوع وقهر. مدينة بائسة. ناسها متْعَبون ومتْعِبون. أحوالها رهن قرارات جوفاء، تزيد الواقع اضطراباً، وتفتح الفضاء أمام مصائب أخطر من كورونا، إذْ تُمعن فتكاً بأناسٍ يتقاتلون فيما بينهم من أجل مأكلٍ، بدلاً من انقلابٍ على من يُسبِّب لهم تقاتلاً كهذا، من أجل حقّ لهم جميعاً. قرارات إغلاق تامّ، يريد متّخذوه تنفيذه في 3 أيام (3 ـ 5 إبريل/ نيسان 2021)، ظنّاً منهم أنّ إغلاقاً كهذا يُخفِّف تفشياً مخيفاً للوباء. إغلاق تام سيشهد، كما يُقال، خلوّ الشوارع كلّياً من الناس، ما يُفترض به، بحسب متّخذي القرار، أن يُخفِّف سطوة كورونا على الجميع، بينما يتوزّع متّخذو القرار أنفسهم لقاحاتٍ بينهم، تاركين بعضها لمريدين قريبين جداً منهم، وبعض الناس يموت مذلولاً، كعادة البلد.
أحد أسوأ بنود قرارات الإغلاق كلّها، إصرارٌ على منع فتح أبواب صالات السينما والمسرح. متّخذو القرار يُدركون، بحسب علمٍ مخفيّ عن الآخرين كما يبدو، أنّ كورونا يعشق السينما والمسرح، وأنّه يتفنّن في غزو الصالات إنْ تفتح أبوابها، وأنّه مولع بجهابذة هوليوود وأوروبا في صُنع روائع الشاشة الكبيرة، وبعبقرية مسرحيين لبنانيين (على الأقلّ)، فيخشى مسؤولو البلد منه عليهم، متناسين أنّ أعطابهم هم، في قراراتٍ وإداراتٍ ومسؤوليات، أخطر من كلّ وباء معروفٍ في تاريخ البشرية. يظنّون أنّ صالات السينما والمسرح في البلد مرتع للوباء، فيُصرّون على الاستمرار في إغلاق أبوابها، فهم يخشون أصلاً صناعة ثقافية وفنية، تواجه وتُعرّي وتفضح وتكشف وتبوح، وهذا كلّه خطرٌ عليهم، والأخطر ـ بالنسبة إليهم كما يبدو من قراراتهم ـ كامنٌ في فتح أبواب الصالات أمام قلّة، تتمسّك بحقّ لها في مُشاهدة طبيعية تتيحها الصالات لهم.
الصالات تلك مُعطّلة منذ عامٍ ونصف عام. "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية غير مسؤولة عن إقفالٍ ومآزق، رغم أنّ بعض الإقفال مرتبط بها، فصالات سينمائية عدّة واقعةٌ في حيّز جغرافيّ يشهد نضال منتفضين ومنتفضات ضد سلطة قامعة وفاسدة وناهبة. كورونا إضافة غير متوقّعة إلى أزمات ومضايقات. إغلاق الصالات السينمائية، ومعظمها يمتلك أحدث التقنيات وأهمها، متواصلٌ، رغم إتاحة فرصة متواضعة لمُشاهدين عديدين، بفتح صالات قليلة لوقتٍ قليل، قبل أشهرٍ عدّة. صالات المسرح تزداد عتمة وتقوقعاً في فراغ بلدٍ وجنون مسؤولين واستسلام شعبٍ، وبعضها معطوب منذ زمنٍ، بسبب سوء إدارة، أو ادّعاء نقص المال، فالمال متوافر، وإصلاح الأعطاب غير محتاج إلى مالٍ كثير، قبل بدء الأزمة.
كلّ فعل ثقافي وفني، في بلدٍ كلبنان، مُهمَل، إمّا بسبب انفضاض مراجع رسمية عنه، وإمّا بسبب تقاعس عاملين فيه عن كلّ إصلاحٍ ضروريّ. السينما أبرع في تجديد ذاتها وروحها وأدواتها. انفجار الرابع من أغسطس/ آب 2020 ضربة قاسية لقطاع السينما، ونداء سينمائيين وسينمائيات بعده يعكس حرصاً على صناعةٍ، يتمنّى معنيون ومهتمّون أنْ تستمرّ في هذا البلد، رغم مصائبه وانهياراته وخرابه. للمسرحيين كلامٌ، لكنّ الاحتفال اللبناني بـ"اليوم العالمي للمسرح" (27 مارس/ آذار 2020) معقودٌ على أسماء مُكرّرة، وبعض تلك الأسماء مسؤول عن خراب المسرح، إنتاجاً ووظيفة وتفكيراً وأدوات وسجالاً.
صالات السينما والمسرح مُغلقة. لا بأس. مسؤولو البلد يقولون بلا فائدة فيلمٍ أو مسرحية، في زمن المخاطر الشرسة التي تحيط بالبلد. مواجهة الوباء، عند إعادة الحيوية والنشاط إلى تلك الصالات، سهلةٌ، بالتزام صارم بقواعد السلامة الصحية، وهذا أفضل من إغلاقٍ تام وطويل. رغم هذا، يبدو أنّ المسؤولين يعلمون ـ في الثقافة والفنون ـ ما لا يعلمه ولن يعلمه أحدٌ سواهم.
لكنْ، لا حياة لمن تنادي، في بلد الفراغات القاتلة.