3 أفلام قصيرة (إنتاج 2020) للمغربي هشام العسري تُثير سؤال العلاقة بين النتاج السينمائي والمُشاهِد، من دون تناسي جماليات الأفلام، واشتغالات العسري. 3 أفلام تُعرَض حصرياً على "يوتيوب"، بدءاً من 25 سبتمبر/ أيلول 2020. الرغبة في منح المهتمّ فرصة المُشاهدة دافعٌ إلى اختيار تلك التقنية: "إنّه سؤال (يتعلّق بكيفية) منح المُشاهَدة"، يقول العسري في تقديمه مشروعه الجديد هذا. يُضيف: "لكنّه أيضاً سؤال إحياء النقاش حول الإنتاج السينمائي المغربيّ، الذي يحتكره تجّارٌ لا رؤية لهم، ولا شغف ولا رغبة". فـ"يوتيوب"، بالنسبة إليه، يجعل توزيع الفنّ واستقباله "أكثر ديمقراطية"؛ والتواصل المباشر مع الجمهور "مهمّ جداً" بالنسبة إلى الفنانين، "خصوصاً في زمن الوباء هذا (كورونا)"، و"الاستمرار في الخلق والإبداع بعيداً عن الكوارث العقيمة للصناعة السمعية البصرية في المغرب".
التجربة قابلة للمتابعة والنقاش. وسائل التواصل مع المُشاهدين في زمن الوباء تتكاثر. الأفلام الـ3 للعسري تُتيح ـ إلى مُتعة المُشاهدة، والتحريض على التأمّل، والتنقيب في جماليات الصورة والمعالجة والتقنيات المستخدمة في إنجازها ـ تنبّهاً مطلوباً إلى مُستقبل المُشاهدة. الأفلام قصيرة، والسرد الدرامي مرتبطٌ بتكثيفٍ بصريّ يفسح مجالاً أمام العين والانفعال والعقل للتبصّر في عوالم تمزج ـ بصُوَرها وتوليف متتالياتها واشتغالات التمثيل فيها ـ بين عنف الذات والروح (العنف مبطّن، مع تعبير مباشر يندر حصوله)، المنبثق من قسوة بيئة وانهيارها، وانفلاش المشهد على خرابٍ وخيبات وموتٍ.
"الفيلم العربي الأخير (The Last Arab Movie)" و"أندرويد وزومبي (Androides And Zombies)" و"بدون عنف (Cruelty Free)". الأفلام القصيرة هذه (25 دقيقة و16 ثانية، 24 د. و53 ثانية، 29 دقيقة وثانية واحدة) تلتقي في مشتركاتٍ تتمثّل بحدّة الانهيار الذاتي، وإنْ اختلف التعبير عنه بين فيلمٍ وآخر، وفي حصار الفرد داخل بيئات منغلقة وقاسية، وفي انكشاف التمرّد على قتلٍ مادي غالباً، وتعذيبٍ روحي أساسيّ، وفرارٍ مُعطَّل.
وإذْ يغلب الكلام على طبيعة النصّ الأول، وسرديّة الراوي على قسوة النصّ الثاني، فإنّ موسيقى الثالث تتحوّل سريعاً إلى لغة ناطقة بأحوالٍ وآلامٍ وتفاصيل تُعانيها امرأةٌ في لحظة عذابٍ قاسٍ. للموسيقى حضورٌ في الفيلمين الآخرين، لكنّها في "بدون عنف" تُصبح كلّ شيء تقريباً: اللغة والحوار والتعبير والتمثيل، من دون إلغائها للتفاصيل هذه، خصوصاً أداء أمال كمال في شخصية ندى، الملتزمة صمتاً يقول أعنف تعبيرٍ عن غليان الداخل وغضبه، والمنقبضة وجهاً مخبّأ خلف نظّارة سوداء، وجسداً منعزلاً في ثياب شتوية يُغطّيها معطف أحمر، وروحاً تريد تفلّتاً من ألمٍ دفينٍ وتعذيبٍ لا يُطاق، تحصل عليه (التفلّت) بعد إنهاء مهمّتها التي تدفعها، بعد تعطّل سيارتها، إلى سيرٍ على القدمين وهي تجرّ وراءها "ماكروايف"، تكشف النهاية عمّا فيه، فيُصبح السير على القدمين تعرية حادّة لبيئة وأفرادٍ وحالاتٍ.
يميل "آخر فيلم عربي" إلى سخرية هائلة تكشف، بلغة يكتنفها مناخ سوريالي وغريب وغامض رغم الواقعيّة العميقة للحكاية والناس والبيئة، أهوال الخراب والمصائر واللحظات الآنيّة لأفرادٍ يُقيمون في متاهة عيشٍ، وانعدام كلّ حدّ بين متخيّل السينما وواقع الحياة. ورغم مرارة التفاصيل التي يُعبَّر عنها بكلامٍ وسلوكٍ ومساراتٍ، تبدو السخرية أقسى من أنْ توصف، وأجمل من أنْ تُختزل بكلامٍ لن يُعوِّض عمق الحكايات المنبثقة من أصلٍ، يتمثّل بسعي عاطلٍ من العمل إلى فهم محيطٍ يُقيم فيه، ويمتلئ بأفرادٍ يعكسون انهياراتٍ جمّة.
هذا يختلف تماماً عن "أندرويد وزومبي" و"بدون عنف". فالسخرية غائبة كلّياً، واعتماد نكتٍ مريرة، وإنْ كانت مبطّنة، غير حاضرة. بينما القسوة الحادّة، التي يتضمّنها النصّان السينمائيان، تُبرز أسوأ ما فيها، وتُعرّي بشاعةً تُصيب كلّ فردٍ، فيختار بعض هؤلاء أساليب مختلفة لانتقامٍ، يتنوّع بتنوّع أمزجة المُنتقم وتفكيره وانفعاله. فالرجل إكس (أندرويد وزومبي) يروي حكايته صامتاً، ويتجوّل في أزقّة تؤثّر في ازدياد حدّة غضبه، قبل بلوغ منزله الزوجيّ، حيث يُترجم غضبه المبطّن وحقده المخبّأ، رغم ظهورهما بخفر على ملامح قاسية لوجهه ومشيته وملابسه وهلوساته وانشغالاته. وندى (بدون عنف)، الصامتة كالرجل إكس (روايته تُروى بصوتِ راوٍ بينما يبقى هو صامتاً، باستثناء لحظة الصراخ المكتوم)، تُخبّئ ملامحها، فهدفها أهمّ من كشف ما فيها وعليها من صُوَر وملامح وانفعالات، مكتفيةً بوجه واجمٍ، ومشية تتأرجح بين العسكريّ والحكيم (الشكل يوحي بصرامةٍ فالانتقام مرير، وتحقيق الانتقام من كلّ شيء يحتاج إلى حنكة عسكريّ وبصيرة حكيم)، وإشارات قليلة تعكس التزاماً قاسياً ببلوغ نهايةٍ تكشف، في آنٍ واحد، انتقاماً تريده، ودفناً لغضبٍ فيها تحتاج إليه.
بهذه الأفلام الـ3 القصيرة، يستكمل هشام العسري اختباراته السينمائية، غير مكترثٍ بتقنية محدّدة للمُشاهَدة، فالأهمّ كامنٌ في المُشاهَدة نفسها، خصوصاً أنّ لهذه الأفلام الجديدة حيوية اشتغالٍ سينمائيّ ممتع، رغم قسوةٍ وعنفٍ وخرابٍ وانكساراتٍ تعتمل في ذات فردٍ، وفي روح بيئة.