لأكثر من نصف قرنٍ، ظلّت المجلة الفرنسية "دفاتر السينما" (Cahiers Du Cinema) مُتربّعة على عرش المطبوعات السينمائية الأشهر، والأكثر اختراقاً للصناعة السينمائية في العالم. مسارٌ طويلٌ، تُوِّج بأفلامٍ فرنسيّة عدّة، وبعشرات المُؤلَّفات النقدية، التي أضحت مرجعاً مهمّاً في تاريخ السينما العالمية.
لا يعثر الناقد العربي على مجلةٍ سينمائية تُضاهي "دفاتر السينما" في براعتها، كما في زخمها وحريتها ونقدها وتفكيرها وصناعتها وتغطياتها وحواراتها ومقالاتها، ما جعلها ـ منذ عام 1951 ـ أكثر المجلات السينمائية قراءة. ورغم غيابها الطويل عن مكتباتٍ وأكشاكٍ مغربيّة، يشترك زملاء كثيرون ـ منذ ثمانينيات القرن الـ20 ـ مع جهةٍ معنيّة بالتوزيع، للحصول على أحدث الأعداد، ومعرفة الشأن السينمائي العالمي، واللحظات التي تعيشها أفلامٌ ونظريات ومفاهيم في مُختبر النقد الفكري، قبل أنْ تظهر كأبحاثٍ ومقالات في صحفٍ ومواقع تُعنى بالشأن السينمائي.
المجلة تتجاوز اليوم كونها مطبوعة علمية، تُعنى بأحوال الفنّ السابع، نقداً وفكراً وتوثيقاً، إذْ باتت مصدراً مهمّاً للتأريخ الفني، لما فيها من قضايا وإشكالات تتعلّق بصناعة الصورة المُتحرّكة، في الحقبة الحديثة، ومن مقالات لها علاقة بسياقاتٍ سينمائية معيّنة، ما يجعل المجلة مصدراً للباحث بفضل مخزونها من مفاهيم ونظريات وأفكار، قادرة على صوغ مشروعٍ فكريّ، سنده السينما، وعماده التجربة.
لا تنتمي المجلة إلى جهةٍ فرنسيّة رسمية، ما ساعدها على أنْ تتحرّر في التصوّرات، وتُعنى بالاجتماع، وتلتحم بالمُتخيّل. يتبدّى خطها التحريري بوصفه يسارياً، لا يهتمّ بالأفلام الرسمية وحفلاتها، بل بفضاء للنقد والتفكير والتعبير بطلاقة عن أفلامٍ فرنسيّة حاضرة في وعي الاجتماع الإنساني. من النقد الإيديولوجي إلى نظيره التفكيكي، وصولاً إلى الفكر الآخر، تأرجحت كتاباتها بين هذه الأنماط في صوغٍ معرفيّ نقديّ وسينمائي. في سبعينيات القرن الـ20، مع اشتداد أزمة اليسار في العالم، وظهور اليمين المُتطرّف كعنصر ثابت ومُضادّ للحداثة والتحديث في الجيوسياسية في العالم، بدت المجلة كأنّها سياسية أكثر منها سينمائية، رغم أنّ هذا ساهم في ذيوعها وانتشارها، حتى أضحت قُبلة كتّاب وسينمائيين وفنانين وسياسيين ومُؤرّخين كثيرين.
تجاوز خطها التحريري كلَّ ما هو فنّي وجمالي، إذْ استقرّت في نقدٍ تفكيكي (مرحلة سيرج داني)، قوامه السياق التاريخي، ونسقه مشدودٌ إلى ممارسة فكرية، مُتمثّلة في إقامة نقدٍ فكريّ يُفكّك السياقات التاريخية للفيلم، وبُناه البصرية، وأنماط الصورة وعلاقاتها بأسئلة الجسد والتاريخ والوجود. لذلك، تُعدّ هذه التجربة أغنى المراحل التاريخية جودةً، فسيرج داني (1944 ـ 1992) لم يعمل على تكريس الأفكار والمفاهيم والنظريات، بل على تثوير الفكر فيها، وجعلها أفقاً فكرياً أكثر منه نقديا أو إعلاميا.
رغم السياق التاريخي الذي ظهرت فيه، ودورها في تفعيل الحياة السينمائية الفرنسية، تبدو "دفاتر السينما" اليوم كأنّها تعيش على وقع أمجادها، لا بسبب ضعف مقالاتها، وارتباك حواراتها وبساطتها أحياناً، بل لتلاشي السياق الإيديولوجي لها، ودخول المجتمع الفرنسي ـ بسياسيّيه ومُنتجيه ونُخبه ومُثقفيه ـ في سياسات الترفيه والاستهلاك، إذْ أصبح الفضاء السينمائي مكاناً للتسلية. وهذا يقتل حيوية السينما، ودورها الفكري، وتأثيرها الإيديولوجي في الاجتماعٍ والأمكنة. ذلك أنّ السينما تتحوّل من آلةٍ لصنع الفكر وفُسحةٍ للتأمّل، إلى مهرجانات فنية وصالات عرض تريد التسلية فقط.
هناك مسارٌ مُغاير شهدته المجلة في الألفية الجديدة، يتمثّل في عدم قدرتها على التأثير في الحياة السينمائية الفرنسية، لكنّ هذا يحتاج إلى قراءات أكثر قبل إصدار حكمٍ قيميّ. بهتان الإنتاج السينمائي الفرنسي، وتراجعه في الآونة الأخيرة، ربما يكونان عاملاً على تراجع خطّ المجلة وقدرتها على التأثير. إنّ تأمّل المسارات الغنيّة التي مرّت بها، تجعل القارئ يشعر بأنّ سياقها التاريخي سبب ذيوعها؛ وبتلاشي هذا الأفق العُضوي الوثيق بين المُجتمع والسينما، الذي عرفته في سبعينيات القرن الـ20، بدأت المجلة تتراجع وترتبك في بعض أعدادها، منذ تسعينيات القرن نفسه.
لم يعُد رهان صنّاع السينما مبنياً على النقد السينمائي، مع الاهتمام بالمُؤسّسة الرسمية، وقنوات الدعم، وشركات الإنتاج، والمهرجانات العالمية، التي غدت الأهم بالنسبة إليهم، لما تُدرّه عليهم من أموالٍ كثيرةٍ. رغبة نقّاد ومخرجين وعاملين سينمائيين في إبداع صورة سينمائية جديدة، منذ الستينيات الماضية، مع سيرج داني وجان ـ لوك غودار وفرنسوا تروفو وإريك رومر وجاك ريفيت وغيرهم، مع ما عُرف بـ"الموجة الجديدة"، جعلتهم يُفكّرون في صوغ هذا المشروع المُتقطّع في النقد والسينما.
عربياً، إذا تجاوزنا سبعينيات القرن الـ20 وثمانينياته، يكاد الناقد لا يعثر على أيّ فيلمٍ يستمدّ أفكاره ومُتخيّله وصناعته من "دفاتر السينما"، بوصفها مُختبراً للفكر وطرح أسئلة تتعلّق بالسينما، وبعلاقتها بتمزّقات الناس ومآسيهم. في أفلام جان شمعون ومارون بغدادي وجوسلين صعب مثلاً، يتبدّى ـ تقنياً، وطريقة إنتاج الصورة المُتخيّلة، وأنماط التصوير ـ فكرٌ وخلقٌ وتشكّلٌ من الموجة الجديدة، فهم أبدعوا متناً سينمائياً مُكثّفاً، يقترب من أحلام الناس ومَشاعرهم ورؤاهم.
إلى اليوم، لا تزال هذه الأفلام تُشَاهَد وتُروى ويُحتفى بها ويُكتب عنها، لا لأنّها تُمثِّل مرجعاً في تاريخ السينما العربية البديلة فقط، بل أيضاً لقُدرتها على المحافظة على كلّ مقاييس "الموجة الجديدة"، وأنماطها وأفكارها وتقنياتها ومفاهيمها.
لكنْ، إذا استثنينا هذه التجارب السينمائية، لم تستوعب السينما العربية، قديماً وحديثاً، مشروع "دفاتر السينما"، وإمكانية خلقٍ واقع جديدٍ في السينما، إذ يُتابع المُشاهد تاريخه وذاكرته وأحلامه ونتوءاته وانكساراته وأفراحه. وظيفة السينما أنْ تُشعِر المُشاهد بقربها من وجدانه وأحلامه وتطلّعاته، وبأنّه يرنو إليها كلّما ضاقت به فُسحة العيش في أوطانٍ مهزومةٍ ومنكوبةٍ وعاجزة عن فتح أفقٍ جديدٍ، بعيداً عن الخرابين السياسي والروحي، اللذين تعيش فيهما منذ زمن.
رغم وصول المجلة إلى المغرب بانتظام، سابقاً، لم يكُن هذا عاملاً أساسياً في صنع سينما مغربيّة جريئة، وقادرة على تجديد نفسها من الداخل. صحافيون ونقّاد من المغرب جمعوا مقالات وحوارات كثيرة لصنّاع "دفاتر السينما" وترجموها، خاصة في مرحلة الأندية السينمائية في مُدن مغربيّة. لكنّ هذا لم يكُن كافياً، إذْ لم يتحقّق ما كان يصبو الصحافيون والنقّاد إليه، بسبب تدهور الصناعة السينمائية في المغرب، وارتكازها على أفرادٍ وجماعاتٍ، وَعَد نُضجهم واستيعابهم الأفق الفكري الذي بلورته أقلام "دفاتر السينما" بالتجديد والخلق والابتكار والمساءلة النقدية.
عندما أخرج غودار روائعه السينمائية، لم يكُن يهمّه الموضوع الاجتماعي أو التوثيق التاريخي، أو حتى التخييل السينمائي، لأنّه اهتمّ بطرح أفكار، يُفيد بعضها بأنّ تجديد السينما يبدأ من الشكل، وينتهي فيه. أنجح الأفلام العالمية تلك الثائرة على الشكل، الذي ربما يكون صورة أو سرداً أو حكياً أو توضيباً أو تأليفاً، إذ تُقدَّم عبره رؤية سينمائية مُغايرة، تمزج تشكيل المَفاهيم بالخلق البصريّ.
كتابة هذا النوع من الأفلام تتطلّب أكثر من 5 أعوام، عزلةً وبحثاً وتفكيراً وإعداداً. لكنّ أفلاماً مغربيّة باتت تُنتج في بضعة أيام، وتُقدّم إلى "المركز السينمائي المغربي"، وتحصل على أعلى نسبة دعمٍ ممنوحٍ. صحيحٌ أنّ النقد السينمائي طرح أكثر من مرّةٍ علاقة الشكل بالمضمون، وسأل: ماذا يسبق لحظة التفكير والكتابة، وما حدود كل واحد منهما، وما المسافة التي ينبغي أنْ يتركها المُخرج مع الشكل والموضوع في آنٍ واحدٍ. السينما المغربيّة لم تستوعب هذه العلاقة الفكرية، فظلّت أفلامها ـ منذ سبعينيات القرن الماضي ـ تحوم حول أدبيّات سينمائية ومفاهيمية، تتعلّق بالرصد والتوثيق والتخييل والمعالجة.