أخيراً، بثّت منصّة HBO الأميركية مسلسل "لاندسكيبرز" (Landscapers)، في أحدث إنتاجاتها المشتركة مع شبكة Sky البريطانية. يحمل العمل (أربع حلقات)، المُستند إلى قصة حقيقية، توقيع البريطانيين إد سنكلير في الكتابة، وويل شارب في الإخراج.
سوزان (أوليفيا كولمان) وكريستوفر إدواردز (ديفيد ثيوليس) زوجان بريطانيان في منتصف العمر. ثنائي منعزل وهادئ، لا يثيران اهتمام أحد، متهمان بقتل والدي سوزان في منزلهما في إحدى ضواحي مدينة نوتينغهام شماليّ إنكلترا، ودفن جثتيهما في الحديقة الخلفية للمنزل.
بعد هروبهما إلى فرنسا، خوفاً من افتضاح السر الذي ظلّ مدفوناً لـ 15عاماً، ونظراً إلى ضيق أحوالهما المادية، يفصح كريستوفر لزوجة أبيه عن معلومات تسبب استدعاءه من قبل الشرطة، ليقرر الزوجان العودة إلى بلدهما وتسليم نفسيهما للعدالة. في طفولتها، تعرضت سوزان لاعتداء جنسي من قبل والدها. وفي رد فعل على ما حدث لها، لجأت إلى السينما لمواجهة الحياة والهروب من قبح الواقع.
اختار صنّاع العمل استكشاف العالم الداخلي للزوجين، من منظور خيال سوزان الخصب، وشغفها بالأفلام. هذا الشغف الذي حلّق بها بعيداً عن واقعها المؤلم الذي لم تستطع التصالح معه. لدى سوزان هوس بالعصر الذهبي لهوليوود، وأفلام الغرب الأميركي، خاصة أفلام الممثل غاري كوبر الذي شكّل في عالم سوزان الخيالي البطل الذي أنقذها من ذكريات طفولتها الكابوسيّة. فيلمه الأشهر، "ظهيرة مشتعلة"، هو الواقع الموازي الذي تحلم سوزان بالعيش فيه.
هناك، تعيش حياة متخيّلة في عالم سحري ينتصر فيه الخير على الشر. هذا ما دفعها إلى إنفاق المبالغ الطائلة على ملصقات الأفلام الكلاسيكية، والتذكارات الموقّعة من المشاهير. عند صدمة كريستوفر الشديدة بوفاة أخيه، لم تجد سوزان، التي تعيش حياتها كفيلم، طريقة للتعبير عن حبها له، ومساعدته للخروج من أزمته، سوى كتابة رسائل مزوّرة وتوقيعها باسم جيرار دوبارديو، نجمهما الفرنسي المفضّل، الذي تحوّل لاحقاً إلى صديق مراسلة وهمي، جاهز دائماً للمواساة في كل لحظة تصبح فيها الحياة الواقعية غير محتملة.
تمتد حالة الإنكار التي تعيشها سوزان إلى سلوكها في أثناء التحقيق، لتجد صعوبة في الخروج من عالمها الوهمي الذي اعتادته. ينعكس ذلك على حالتها الذهنية، فتبدو في حالة إرباك بين كونها متهمة فعلاً بجريمة قتل، أو أنها هاربة من القانون في أحد أفلامها المفضلة. مع تقدم جلسات الاستجواب، وازدياد التناقض بين أقوالها وفرضيات المحققين المستندة إلى ما وجدوه من أدلة، يبدو جليّاً أنّ سوزان تعيد بناء نسختها الخاصة من الماضي، النسخة التي تسبّب لها أقل قدر من الألم.
هذه الثغرات في القصة، تزيد من مساحة الغموض بين ما جرى فعلاً، وما اختلقه خيال سوزان المضطربة نفسياً من ذكريات غير حقيقية؛ فالمسلسل لا يدّعي تقديم حقيقة مطلقة، ولا يوجه أصابع الاتهام إلى أحد، بل يورّطنا تدريجاً في تجربة سردية ذات طابع مختلف، تبتعد عن المباشرة، وتدفعنا إلى توظيف مخيّلتنا في محاولة لاستنتاج ما حدث فعلاً.
"لاندسكيبرز" ليس عملاً بوليسياً. باستثناء بعض المحاور الضرورية المتعلقة بآلية سير التحقيق، يبتعد العمل عن الصورة النمطيّة المعتادة في صناعة الإنتاجات المنتمية إلى الفئة ذاتها. لذا، تميل الحبكة إلى التركيز على العلاقة بين البطلين أكثر مما تركّز على ملابسات الجريمة التي ظلت مستترة منذ أواخر التسعينيات حتى اكتشافها عام 2014. في أقسى اختبار لعلاقتهما المليئة بالأسرار والذكريات المؤلمة، تبرز قوة العاطفة بين سوزان الضعيفة والغارقة دائماً في حالة من الإنكار، وكريستوفر المتحفظ اليائس.
حبّه العميق لها كان دافعه لحمايتها والتورّط معها في القتل. هذا البعد العاطفي للقصة، منح العمل جماليات أنستنا لوهلة أننا في النهاية أمام جريمة بشعة. بكل تأكيد، كولمان وثيوليس قدّما التجسيد المثالي للزوجين إدواردز، الوحيدين، المهمّشين، والقاتلين بكل ما يملكانه من هشاشة عاطفية وغرابة.
لم يكن هدف إد سنكلير (زوج كولمان) الذي درس القانون قبل أن يتّجه للكتابة، صناعة دراما بوليسية تقليدية، بل أراد من خلال استعادة هذه الجريمة المأساوية، وبعثها مجدداً على الشاشة، استكشاف ذلك اللغز البشري الذي يدفع أناساً عاديين إلى ارتكاب الجرائم، والتعرّف إلى الجانب الآخر، الإنساني، الذي لا تعنى به أروقة المحاكم والسجلّات الجنائية.
تبنّى ويل شارب، العائد إلى الدراما التلفزيونية بعد فيلمه الأخير "الحياة الكهربائية للويس وين" (2021)، خيارات فنية رسّخت حالة الاغتراب والانفصال عن الواقع التي يعيشها الزوجان، فاستخدم الأبيض والأسود عند العودة إلى الماضي، والألوان الدافئة والباردة لتكثيف الحالات الشعوريّة التي يمران بها، وانتقل بسلاسة بين الكوميديا السوداء والدراما. وبروح سينمائية تجريبية، ابتعد شارب عن الأساليب المألوفة في تصوير مشاهد التحقيقات، فرافق الزوجين من استوديو إلى آخر لإعادة تمثيل الجريمة، واستخدم شغفهما بالسينما كعنصر سردي لإعادة بناء الوقائع واستعادة الذكريات. أيضاً، خاطر بتمثيل ملاحقة الشرطة لسوزان بمشاهد سينمائية تختلقها مخيّلتها، وتؤدي بطولتها مع كريستوفر في سلسلة مطاردات على غرار أفلام الويسترن التي تعشقها.
أتاح لنا "لاندسكيبرز" معايشة قصة حب فريدة، والتعرّف إلى وجه آخر للحقيقة، لا نجده في أعمدة الجرائد، من دون أن ينسى تزويدنا في ختام كل حلقة بتقارير إخبارية حقيقيّة عن الجريمة، تعيدنا من عالم السينما الملوّن إلى واقع الحياة المظلم.