عندما يكون الخطاب موجهاً للناس عبر شاشة، يواجه شخص واحد جمهوراً عريضاً. في الأساس، العلاقة غير متكافئة. وفي زمن العزل تزداد العلاقة التباساً، من دون أن يعطّل هذا الالتباس احتمالات "التوهج".
يتحدث الأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني، حسن نصرالله، دائماً، عبر شاشة. ليس العزل جديداً بالنسبة إليه. الشكل ليس استثنائياً، اختبره مراراً. لكن رغم ذلك، تحدث أكثر من المتوقع عن كورونا. من داخل شاشته، كان يحاول أن يكون داخل الحدث أيضاً، وليس خارجه، أي أن يقول إن معتزله ليس نهائياً. إن "العقد الاجتماعي" بينه وبين الذين يشاهدونه ما زال قائماً: عبر هذه الشاشة بالضبط يمكن أن يتحدث عن كل شيء.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يصلح لأن يكون نقيضاً للمثل الأول، خاطب المواطنين من خلف شاشة أيضاً. لا يحتاج إلى تكرار في الظهور كي يعرف الفرنسيون أنه داخل الحدث. على العكس تماماً، إذ إنه، وبمعنى من المعاني، كان ظهوره على شاشة، بالنسبة لكثير من المعلقين، استكمالاً لعملية تنصل الدولة الفرنسية من مسؤولياتها، في لحظة اكتشاف ضعف خطط "الرعاية" وتراجعها كأولوية. حسابات "الجمهورية" تضع لرئيسها موقعاً متقدماً، لكن رغم ذلك كان الخطاب عبر شاشة مختلفاً.
حتى الرئيس اللبناني ميشال عون، كان قد تحدث إلى اللبنانيين، خلال الانتفاضة، عبر الشاشة، في إطلالة تبعتها عدة تعليقات وأسئلة عن أهمية المونتاج والتجهيزات. وإذا "عزلنا" حالة عون، لعدم ارتباط ظهوره بالوباء، فإن الجانب السينوغرافي كان ماثلاً دائماً كعامل رئيسي في شاشات المتحدثين.
والملكة إليزابيث التي "اكتشف" كثيرون أن بإمكانها إلقاء الخطابات، والتحدث بصفتها الملكية إلى البريطانيين، ألقت بدورها خطاباً، تبعه في اليوم التالي دخول رئيس الحكومة، بوريس جونسون، إلى غرفة العناية الفائقة. كان التجهيز السينوغرافي بأسره يقوم على "الملكة" نفسها، بوصفها من دعائم الحالة البريطانية عندما تحاول تخيّل نفسها كأمة.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحدث عبر شاشة، وستيفان لوفين، رئيس وزراء السويد أيضاً، مع الفوارق في طبيعة النظامين، وموقع كل من الرجلين في نظامه. وإن كان النظام السويدي ديمقراطياً، إلى درجة تشبه ما نعرفه عن الديمقراطية وليس إلى الدرجة التي يتصورها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فبوتين هو بوتين، ولا يحتاج إلى تعريف. يحبّ الرجل صورته، أكثر من حاجته لبناء خطاب متماسك. لسببٍ ما، تحيلنا هذه العلاقة بين الصورة وصاحبها إلى إميل دوركايم. في كتابه التأسيسي، "العناصر الأولية للحياة الدينية"، يشير دوركايم إلى أن "الطواطم" عموماً تكون محاطة بنظرات الآخرين. وإن كانت هذه "الطواطم" بحاجة إلى الزمن لكي تكتسب راهنيتها، كما يرى فوكو، فإن التأصيل موجود في أعمال دوركايم. تأصيل قد يمتد إلى الحاضر، لأنه استطاع تحديد قدرتها على الانبعاث الذي يتجدد في هيئة صور تشد المشدودين إليها بخليط من الرغبة والهيبة. خلال محاولات التفسير، يخلص عالم الاجتماع الفرنسي إلى أن ثمة حاجة دائمة للصورة. هناك علاقة بين الصورة، وبين الوعي، أو ما يسميه دوركايم "الوعي الجمعي".
اقــرأ أيضاً
وباء كورونا، هو لحظة من لحظات الدولة. فرصة للتحدث مع الخائفين من "فوق"، بالمعنى السيميائي للكلمة، بوجود شاشة بداخلها محاضِر. العلاقة التي يتحدث عنها السوسيولوجي هي علاقة إيجابية، بين الوعي والصورة، وبين الطوطم وصورته. والعلاقة بين الطوطم وصورته في الحداثة، يمكن أن تتجسد في شاشة، تخاطب ما يتفرع من عُنْصرَي الرغبة والهيبة، تخاطب الخوف من الوباء. ما الذي تحدث عنه الجميع عبر الشاشة في زمن كورونا سوى الحرب؟ استعادة الحرب كخطاب، صناعة عدو، أو استعارة صفة العدو، ومنحه صفة اللامرئي... محاولة التحول إلى أبطال.
في حسابات نصر الله، الحرب جزء من صيرورة. لتوفير الوقت، يمكن القول باستسهال: أيديولوجيا. وبعد بحث، من المهدوية العريضة إلى حسابات السياسة اللبنانية الضيقة، قد نكتشف أن شاشةً واحدة لا تكفي. وبما أنها الشاشة الوحيدة التي اعتادتها الجماهير، فهناك صعوبة في خروج خطاب مختلف عنها، أو استعمال أدوات جديدة. لذلك، كان الخطاب عسكرياً، وكانت المفردات: الحرب/ العدو اللامرئي/ النصر.
في الواقع، تلك لغة "الشاشة". ليست لغة المتحدث الذي صار تابعاً لخطاب تمليه عليه الشاشة، وعلاقة الجماهير مع الشاشة. في حسابات ماكرون، كانت الشاشة فرصة لقلب المفاهيم: أولاً زج بالجيش. ثانياً، الدعوة إلى الحجر المدفوع بنزعات اتخذت طابعاً ارشادياً، كان شكلاً من أشكال الحجر الفكري، ولكن بأدوات الأنتلجنسيا الفكرية، وليس بأدوات الدولة الشمولية. ثالثاً، التمويه، باختراع كورونا عدواً، بدلاً من مصارحة الفرنسيين بفداحة الاتكال على الأسواق الحرة وأفول تصوراتهم عن دولة الرعاية وقطاع صحي مؤسطر. رابعاً، وباعترافه بالعجز، تابع التنصل، وكان العجز بديلاً من الحقيقة: العودة مستحيلة. ماكرون الذي "تحصن" في شاشة، وجهزها بعدة "الجمهورية" الفرنسية، كان أقل حاجة إلى التكلف من الملكة البريطانية. وفيما كان خطابهما يشترك في نقطة أساسية، وهي محاولة تقمص خطاب ونستون تشرشل الشهير، كان الفارق البصري في الملكة بحد ذاتها. تسجّل بريطانيا منذ فترة ألف وفاة في اليوم، وعدد الوفيات في المستشفيات ليس نهائياً، لأن هناك من يموت في دور الرعاية وفي المنازل. في الحالة البريطانية، استنفدت الشاشة، وتوجهت إلى "وعي جمعي" يبحث هو عن ملجأ. رغم تشابه رؤية الإدارتين الفرنسية والبريطانية للأزمة في البداية، لمحاولة إنقاذ الاقتصاد، إلا أن ماكرون ظهر في شاشة لكي يرتفع فوق الأسئلة، لكي يختبئ. أما الملكة، فظهرت لتعلن أن المملكة نفسها هي الملجأ الوحيد للمشاهدين البريطانيين.
الخطاب عبر الشاشة، إذاً، هو نقاش بين "الدولة" بما تمثله من سُلطة، وبين وعي المتلقي. لكن الوعي ليس جهازاً منفصلاً، بل هو مزيج من عدة عناصر، لديها قوانينها وحساباتها. البحث عن الوعي يحتاج إلى متخصصين، ولكن البحث عن "لحظة الدولة" في الخطاب عبر الشاشة ليس صعباً. يمكن ذلك بالاستفادة من تعليق راهني لجورجيو أغامبن، الذي اعتبر الحرب ضدّ عدو يتم تصنيفه لامرئياً هي حرب مفرطة في العبثية، لما يتبع ذلك من تعسف. غير أن الاستدلال إلى دور الدولة في الوباء، يحتاج إلى عمل فوكو المرجعي. لطالما نظّمت الدولة البؤس، واستخدمت في هذه العملية أدوات عديدة. في العصور التي حفر فيها فوكو، كانت هذه الوسائل مراسيم ملكية وتشريعات برلمانية، وتمظهرت أيضاً في "دور للحجز". في عصرنا، الشاشة تجاوزت "المرسوم" في حدود تأثيرها، أما دور الحجز فاتسعت إلى درجة رهيبة.
حتى الرئيس اللبناني ميشال عون، كان قد تحدث إلى اللبنانيين، خلال الانتفاضة، عبر الشاشة، في إطلالة تبعتها عدة تعليقات وأسئلة عن أهمية المونتاج والتجهيزات. وإذا "عزلنا" حالة عون، لعدم ارتباط ظهوره بالوباء، فإن الجانب السينوغرافي كان ماثلاً دائماً كعامل رئيسي في شاشات المتحدثين.
والملكة إليزابيث التي "اكتشف" كثيرون أن بإمكانها إلقاء الخطابات، والتحدث بصفتها الملكية إلى البريطانيين، ألقت بدورها خطاباً، تبعه في اليوم التالي دخول رئيس الحكومة، بوريس جونسون، إلى غرفة العناية الفائقة. كان التجهيز السينوغرافي بأسره يقوم على "الملكة" نفسها، بوصفها من دعائم الحالة البريطانية عندما تحاول تخيّل نفسها كأمة.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحدث عبر شاشة، وستيفان لوفين، رئيس وزراء السويد أيضاً، مع الفوارق في طبيعة النظامين، وموقع كل من الرجلين في نظامه. وإن كان النظام السويدي ديمقراطياً، إلى درجة تشبه ما نعرفه عن الديمقراطية وليس إلى الدرجة التي يتصورها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فبوتين هو بوتين، ولا يحتاج إلى تعريف. يحبّ الرجل صورته، أكثر من حاجته لبناء خطاب متماسك. لسببٍ ما، تحيلنا هذه العلاقة بين الصورة وصاحبها إلى إميل دوركايم. في كتابه التأسيسي، "العناصر الأولية للحياة الدينية"، يشير دوركايم إلى أن "الطواطم" عموماً تكون محاطة بنظرات الآخرين. وإن كانت هذه "الطواطم" بحاجة إلى الزمن لكي تكتسب راهنيتها، كما يرى فوكو، فإن التأصيل موجود في أعمال دوركايم. تأصيل قد يمتد إلى الحاضر، لأنه استطاع تحديد قدرتها على الانبعاث الذي يتجدد في هيئة صور تشد المشدودين إليها بخليط من الرغبة والهيبة. خلال محاولات التفسير، يخلص عالم الاجتماع الفرنسي إلى أن ثمة حاجة دائمة للصورة. هناك علاقة بين الصورة، وبين الوعي، أو ما يسميه دوركايم "الوعي الجمعي".
وباء كورونا، هو لحظة من لحظات الدولة. فرصة للتحدث مع الخائفين من "فوق"، بالمعنى السيميائي للكلمة، بوجود شاشة بداخلها محاضِر. العلاقة التي يتحدث عنها السوسيولوجي هي علاقة إيجابية، بين الوعي والصورة، وبين الطوطم وصورته. والعلاقة بين الطوطم وصورته في الحداثة، يمكن أن تتجسد في شاشة، تخاطب ما يتفرع من عُنْصرَي الرغبة والهيبة، تخاطب الخوف من الوباء. ما الذي تحدث عنه الجميع عبر الشاشة في زمن كورونا سوى الحرب؟ استعادة الحرب كخطاب، صناعة عدو، أو استعارة صفة العدو، ومنحه صفة اللامرئي... محاولة التحول إلى أبطال.
في حسابات نصر الله، الحرب جزء من صيرورة. لتوفير الوقت، يمكن القول باستسهال: أيديولوجيا. وبعد بحث، من المهدوية العريضة إلى حسابات السياسة اللبنانية الضيقة، قد نكتشف أن شاشةً واحدة لا تكفي. وبما أنها الشاشة الوحيدة التي اعتادتها الجماهير، فهناك صعوبة في خروج خطاب مختلف عنها، أو استعمال أدوات جديدة. لذلك، كان الخطاب عسكرياً، وكانت المفردات: الحرب/ العدو اللامرئي/ النصر.
في الواقع، تلك لغة "الشاشة". ليست لغة المتحدث الذي صار تابعاً لخطاب تمليه عليه الشاشة، وعلاقة الجماهير مع الشاشة. في حسابات ماكرون، كانت الشاشة فرصة لقلب المفاهيم: أولاً زج بالجيش. ثانياً، الدعوة إلى الحجر المدفوع بنزعات اتخذت طابعاً ارشادياً، كان شكلاً من أشكال الحجر الفكري، ولكن بأدوات الأنتلجنسيا الفكرية، وليس بأدوات الدولة الشمولية. ثالثاً، التمويه، باختراع كورونا عدواً، بدلاً من مصارحة الفرنسيين بفداحة الاتكال على الأسواق الحرة وأفول تصوراتهم عن دولة الرعاية وقطاع صحي مؤسطر. رابعاً، وباعترافه بالعجز، تابع التنصل، وكان العجز بديلاً من الحقيقة: العودة مستحيلة. ماكرون الذي "تحصن" في شاشة، وجهزها بعدة "الجمهورية" الفرنسية، كان أقل حاجة إلى التكلف من الملكة البريطانية. وفيما كان خطابهما يشترك في نقطة أساسية، وهي محاولة تقمص خطاب ونستون تشرشل الشهير، كان الفارق البصري في الملكة بحد ذاتها. تسجّل بريطانيا منذ فترة ألف وفاة في اليوم، وعدد الوفيات في المستشفيات ليس نهائياً، لأن هناك من يموت في دور الرعاية وفي المنازل. في الحالة البريطانية، استنفدت الشاشة، وتوجهت إلى "وعي جمعي" يبحث هو عن ملجأ. رغم تشابه رؤية الإدارتين الفرنسية والبريطانية للأزمة في البداية، لمحاولة إنقاذ الاقتصاد، إلا أن ماكرون ظهر في شاشة لكي يرتفع فوق الأسئلة، لكي يختبئ. أما الملكة، فظهرت لتعلن أن المملكة نفسها هي الملجأ الوحيد للمشاهدين البريطانيين.
الخطاب عبر الشاشة، إذاً، هو نقاش بين "الدولة" بما تمثله من سُلطة، وبين وعي المتلقي. لكن الوعي ليس جهازاً منفصلاً، بل هو مزيج من عدة عناصر، لديها قوانينها وحساباتها. البحث عن الوعي يحتاج إلى متخصصين، ولكن البحث عن "لحظة الدولة" في الخطاب عبر الشاشة ليس صعباً. يمكن ذلك بالاستفادة من تعليق راهني لجورجيو أغامبن، الذي اعتبر الحرب ضدّ عدو يتم تصنيفه لامرئياً هي حرب مفرطة في العبثية، لما يتبع ذلك من تعسف. غير أن الاستدلال إلى دور الدولة في الوباء، يحتاج إلى عمل فوكو المرجعي. لطالما نظّمت الدولة البؤس، واستخدمت في هذه العملية أدوات عديدة. في العصور التي حفر فيها فوكو، كانت هذه الوسائل مراسيم ملكية وتشريعات برلمانية، وتمظهرت أيضاً في "دور للحجز". في عصرنا، الشاشة تجاوزت "المرسوم" في حدود تأثيرها، أما دور الحجز فاتسعت إلى درجة رهيبة.