عكس ذلك الواقع، قبلنا أم لا، فإن أنظمة "مدن الملح" وشرق المتوسط، حتى في تفاخر مشايخ بلاطها بـ"اقرأ"، تصرّ على تذكير العالم أنها لا تتنافس إلا في إثبات تفوقها على نفسها لترسيخ كل شيء داخل قوقعة الأمية والتخلف والجهل، وكل توابعها، وتحويل الإنسان إلى ديكور في سيرك تهريج الولاء لها ولأجهزتها، بما فيها تلك التي تسمى "إعلاماً" و"صحافة" للإبقاء عليه ضمن جماعته مسيراً كقطيع، في مشارق ومغارب الأرض العربية.
واقع الحال أيضاً أن مصير الأستاذ جمال خاشقجي، اتفق أم اختلف معه البعض، يذكرنا مجدداً بطبيعة المقت والكراهية التي تجمع الأنظمة السياسية، ليس فقط تجاه صحافي وكاتب، بل لكلّ ما يمتّ لحرية التعبير والتفكير بصلة.
أنظمة كواتم الصوت، بوظيفتها، الكاتمة دماء والمغتالة معنوياً، والمخترعة قصة "الانتحار"، في سبيل تمديد عمر تسلطها، لم تترك وسيلة، لا تفجيراً ولا رصاصاً ولا أسيداً، ولا مطارق تكسير الأنامل، ولا تغييباً في أقبيتها الجاهزة، حتى لمن هم من "عظام الرقبة"، في "القبيلة والعشيرة".
ويصعب أن تجد فروقاً بين هنا وهناك، سواء التي اعتبرت نفسها يوما قومية ويسارية أو تلك المصرة على أنها دينية، أو بين ملكية وجمهورية، والأخيرة تحولت أصلاً إلى ما بعد الأولى توريثاً. فقصة الغل والتحريض على حرية الكلمة ليست أمراً حديثاً، وتسبق بكثير قصة اختفاء ناصر السعيد في بيروت قبل أكثر من 35 سنة، إلا أن قصة "اختفاء جمال خاشقجي" تفتح جروحاً عربية مستعادة يومياً، في ظلمات القهر.
الصحافي اللبناني سليم اللوزي لم تستهدفه الاستخبارات السعودية، بمعنى أن قضية ملاحقة الصحافي والكاتب ليست حكرًا على نظام دون آخر، فمن حرق يده بالأسيد، وقتله بطريقته السورية، قال للباقيين من زملائه: "هذا هو مصيركم"، وكم مصيرًا شهدنا خلال 7 سنوات من جراح سورية؟
بل إن الأنكى في تلك الحقبة، وحتى وقت قريب، تباكي هذا النوع من الأنظمة على قتل الاحتلال الإسرائيلي والأميركي لصحافيين فلسطينيين وعرب، فيما أياديهم تقطر دماً، إن بدماء كمال جنبلاط واللوزي وميشيل النمري، وبقية القائمة الطويلة، وصولاً إلى سمير قصير، وتكسير أصابع وقتل وإخفاء صحافيين وكتاب في أقبية دمشق والقاهرة وأبوظبي والرياض وبقية عواصم أخوة الدم.
مشكلة أنظمة مدن الملح أنها لا تتعلم أبدًا من فخاخ نرجسية القوة القاتلة. فماذا كان بوسع غسان كنفاني وناجي العلي وحنا مقبل، وسليم اللوزي وميشيل النمري وعلي حسن الجابر وطارق أيوب وأطوار بهجت، وكل القائمة، أن يفعلوا في مقابل اغتيالها على يد متمرسة بالدموية؟ وهو نفس السؤال الذي يسري على أنظمة تعلمت دوما من زملائها في تل أبيب، حتى قبل أن يصبح الأخيرون حلفاء وموردين لأجهزة تجسس تعقب مواطنيهم، فيما أنت لا تدري كم غيلي كوهين يخردق "سيادتهم" المزعومة.
ببساطة شديدة، حكم فرانكو الفاشي نحو 4 عقود في إسبانيا، وشهدت تشيلي انقلابا على سلفادور أليندي، وسبق نظام بوتين، عدو الصحافة بتصنيف دولي، أن حكم رفاقه في الكي جي بي 70 عاما، وكتم رفاقهم في ستاسي كتم أنفاس الألمان لعقود، وعلقت أنظمة كثيرة، دينية وعملانية الادعاء، مشانق ووسعت سجونا في الصحارى، ورمت بالرصاص أصحاب فكر ومبشرين بحريات، وحاول أصدقاؤهم الجدد في تل أبيب كي الوعي الفلسطيني لأكثر من 70 عاما، فماذا كانت النتيجة لدى أنظمة الاستبداد، وكيانات الاضطهاد؟
ربما يكون الفارق الوحيد بين أنظمة أخرى ومدن الملح العربية أن الأخيرة تحولت في السنوات الأخيرة إلى نمط عصاباتي مليشاوي يعري كل ما تحته من ادعاءات حول "الحداثة والإصلاح".
وفي ذلك أيضاً هزيمة أخرى تضاف إلى سلسة هزائم منذ نشأت عصابات حكم دنيا العرب، إذ لم يستأذن الشعب التونسي المنصف المرزوقي، ولا الشعب المصري سأل عن نخبته، التي بانت عورات انقلابيتها قريبا، ولا الشعب السوري أنانية نخبه المتخيلة، ولا الشعب اليمني سأل "زعيما" شيوعيا أو إصلاحيا، حين خرج هؤلاء ينشدون الحرية والكرامة.
في ظلمة هذا الواقع الكثير مما يراكم انفجارات وتشظيات عنيفة آتية، ما كان يحتاج إليها عالم عربي تائه في المسار وتأليه حكام، أثبت الزمن أنهم يموتون كبقية البشر، وإن باع رهط ما يسمى "الصحافة الوطنية"، مقابل ما يسمونه "المأجورة"، وتلك مسألة أخرى تحتاج إلى هرش الرأس ألف مرة، أوهام خلود هذا وذاك.. هنا وهناك.. الكلمة بالتأكيد لم تمت.. بموت أو اختفاء أصحابها.. والشعوب حين يظن التسلط والاستبداد أنه تمكن منها دائما ما تفاجئه وكل من خطط له.