ظلت قضية المديونية العامة واحدة من القضايا الحاضرة بقوة على أجندة المشكلات الاقتصادية للمنطقة العربية، على مدار العقود الماضية، ومثّلت أحد التحديات التي تواجهها التنمية، بسبب عمق الفجوة التمويلية في ظل أعباء المديونية العامة.
وشهدت قضية المديونية في المنطقة العربية انفراجة، بعد عام 2003، حيث سمحت الفورة النفطية بعوائد مالية مكنت الدول النفطية، على وجه الخصوص، من سداد جزء كبير من مديونياتها العامة، بل وتكوين احتياطيات رأسمالية ونقدية، قدّرت بنحو 2.6 تريليون دولار.
ولم تكن الدول العربية غير النفطية بعيدة عن الاستفادة من الفورة النفطية، حيث تدفقت إليها استثمارات مباشرة وغير مباشرة، وكذلك استقبلت الدول النفطية عمالة من الدول العربية غير النفطية، مما سمح لهذه العمالة بتحويلات مالية أنعشت الاقتصاديات العربية غير النفطية، إلى ما قبل عام 2014.
لكن مع حلول أزمة انهيار النفط عالمياً في منتصف العام 2014، تراجعت إيرادات النفط بشكل كبير، وألقت هذه الأزمة بظلالها السلبية على المقدرات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية، وهو ما أكدته بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2016 الصادر قبل أيام، حيث أشار التقرير إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي للعالم العربي إلى 2.4 تريليون دولار عام 2015، مقابل 2.7 تريليون دولار في 2014، بنسبة تراجع 10.9%، ويعود ذلك التراجع، بشكل رئيسي، إلى انهيار أسعار النفط في السوق الدولية منذ منتصف عام 2014.
وأكد التقرير على مسلّمة كون الاقتصاد العربي ريعيًا على مدار العقود الخمسة الماضية، باعتماده على سلعتي النفط والغاز، وبالتالي فأي تراجع في سعر هاتين السلعتين في السوق الدولية يؤثر سلبيًا على العديد من المؤشرات الاقتصادية من ادخار واستثمار وصادرات وواردات وعمالة ومستوى الأسعار.
ومن هنا دخلت معظم الدول العربية في اتفاقيات مع المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للحصول على تسهيلات ائتمانية، كما فعلت مصر وتونس والمغرب والأردن والعراق، وكان لدول الخليج منحى آخر للتعامل مع هذه المؤسسات، حيث استفادت من الدعم الفني لها، خاصة صندوق النقد الدولي، الذي رسم خطط برامج الإصلاح الاقتصادي التي أُعلن عن تطبيقها في الخليج.
ولم يتوقف الأمر على الإعلان عن برامج الإصلاح الاقتصادي، سواء من الدول النفطية أو غير النفطية، فسارعت الدول غير النفطية إلى الحصول على قروض صندوق النقد الدولي، واتجهت الدول النفطية إلى التوسع في الدين المحلي، وإصدار سندات دولية، كما فعلت السعودية والكويت والإمارات.
ارتفاع الدين العام
تظهر بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2016، أن قيمة الدين العام العربي، بنهاية عام 2015، بلغت 636.1 مليار دولار، مقابل 620.5 مليار دولار في عام 2014، بزيادة 16 مليار دولار، وارتفع مؤشر الدين العام العربي كذلك كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 58.9% عام 2015 مقابل 53.9%.
وتبين أن الدين العام المحلي العربي يمثل النسبة الأكبر من قيمة الدين العام، فالدين العام المحلي عربيًا بلغ 427 مليار دولار في عام 2015، بينما بلغ الدين العام الخارجي 208 مليار دولار، وبذلك تكون نسبة الدين العام المحلي العربي 67.1% من إجمالي الدين العام.
وحلّت مصر في المرتبة الأولى من بين الدول العربية من حيث نصيبها من الدين العام، وكذلك على صعيد مكونات الدين العام، محليًا وخارجيًا، بدين عام بلغ 311.3 مليار دولار، وبما يمثل 48.9% من إجمالي الدين، وأتى المغرب في المرتبة الثانية بقيمة 84.9 مليار دولار، ثم لبنان في المرتبة الثالثة بقيمة 70 مليارا، فالسودان 54.4 مليارا، ثم تونس 38 مليارا، وفق بيانات 2015.
ومن خلال متابعات أداء الاقتصاديات العربية خلال عام 2016، نتوقع أن يكون الدين العام للدول العربية قد شهد زيادات ملحوظة عن تقديرات عام 2015، وبخاصة أن مصر اتخذت خطوات أكبر نحو زيادة المديونية الخارجية،في عام 2016، وفي ظل استمرار زيادة اعتمادها على الدين المحلي لتمويل احتياجات الموازنة للدولة، حيث تذهب بعض التقديرات إلى أن الدين الخارجي وصل إلى 74 مليار دولار في فبراير 2017، بعد حصول الحكومة المصرية على 4 مليارات دولار عبر إصدار سندات دولية تم طرحها نهاية شهر يناير الماضي.
أما السعودية فبلغ دينها العام، وفق بيانات وزارة المالية، 91 مليار دولار في نوفمبر 2016، وفي ظل الالتزامات المالية للمملكة، واستمرار نزاعها مع إيران في اليمن وغيرها من المناطق الأخرى، وكذلك زيادة إنفاقها على التسليح، يتوقع أن تزيد معدلات الدين العام السعودي في عام 2016.
تداعيات زيادة المديونية
بلا شك أن العجز في الموازنات العامة للدول العربية له جوانب متعددة، ويأتي الدين العام ليمثل أحد أهم زيادة العجز في الموازنات العامة، حيث أظهر التقرير الاقتصادي العربي الموحد أن العجز في الموازنات على المستوى العربي في عام 2015 بلغ 9.8% من الناتج المحلي الإجمالي، على العكس من الوضع في عام 2014، حيث كان إجمالي أداء الموازنات العربي فائض 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
وحسب بيانات التقرير، فإن الدول النفطية كانت الأشد تضررًا من زيادة عجز الموازنة في 2015، والبالغ 10.7%، مقارنة بفائض قدره 4.1% في 2014.
ولم يكن زيادة عجز الموازنات العامة هو الظاهرة السلبية الوحيدة لزيادة الدين العام عربيًا، بل أدى ذلك إلى ضغط العديد من النفقات بالموازنة، مما أثر على مستويات أداء الاقتصاديات العربية، ووقف تدفق الاستثمارات العامة، وكذلك زيادة معدلات البطالة التي وصلت إلى 16.5%، وكذلك ارتفاع معدلات الفقر، واتجاه العديد من الدول العربية إلى تخفيض فاتورة دعم السلع والخدمات العامة، وتحميل المواطن جزءا لا يستهان به من تكلفة فاتورة الدعم.
وتتمثل المشكلة الرئيسية لزيادة المديونية العربية في توظيف هذه الديون اقتصاديًا، حيث يتم للأسف توجيه هذه الديون إلى مجالات الإنفاق الجاري، ويندر أن توجه هذه الديون للاستثمارات، ولذلك لم تفلح جهود مواجهة مشكلة الدين عربيًا، بل تشهد فاتورة الدين ارتفاعًا مستمرًا.
فبيانات تقرير صندوق النقد العربي تبين أن الإنفاق العام بالدول العربية، يوزع حسب الآتي من حجم الإنفاق العام:
1- الخدمات الاجتماعية 34.3%.
2- الخدمات العامة 29.7%.
3- الإنفاق على الأمن والدفاع 21%.
وبذلك تحتوي هذه النفقات الجارية على نحو 85% من حجم الإنفاق العام، بينما الإنفاق على الشئون الاقتصادية بحدود 9.8%.
وعادة ما تغيب المساءلة من قبل البرلمانات أو الشعوب العربية للحكومات، عن كيفية التصرف في هذه الديون، أو المطالبة بوجود برامج لإدارة الديون، والقيام بسداد أعبائها، لتفادي آثارها السلبية، وعدم تحميلها للأجيال القادمة.
ويخشى في ظل غياب المساءلة للحكومات عن قضية الدين العام عربيًا، أن تتجدد أزمة المديونية الخارجية مرة أخرى، كما حدث في نهاية الثمانينيات، وأن يكون الدين المحلي قد أتى على ما تبقى من أصول مالية للجهاز المصرفي في الدول العربية.