منذ بداية موجة الربيع العربي الأولى في عام 2011، لم يتردَّد حكام الإمارات العربية المتحدة للحظة في صرف الموارد المالية الضخمة للبلاد على تعزيز الحكومات الاستبدادية التي تفعل ما بوسعها لإجهاض الديمقراطية قبل ولادتها من رحم الانتفاضات الشعبية.
فقد تميَّز التمويل الإماراتي بحضوره القوي في سحق انتفاضة البحرين، والمساهمة في بداية حقبة جديدة من الدكتاتورية العسكرية في مصر في منتصف 2013، تسليح مليشيات الجنرال الليبي المارق "خليفة حفتر"، شنّ حرب مدمِّرة في اليمن، وتأجيج الصراع جنوب السودان بغية نسف عملية الانتقال الديمقراطي هناك.
وبذريعة محاربة التطرُّف الإسلامي وتعزيز الاستقرار الإقليمي، يحرص حكام دولة الإمارات على وصول كل محاولات التغيير الديمقراطي المدني في الدول العربية إلى طريق مسدود من خلال إنفاق مليارات الدولارات على تمويل الانقلابات العسكرية في المنطقة، وشراء جماعات الضغط في الولايات المتحدة، فقد أنفقت الإمارات خلال الفترة الممتدة ما بين 2017-2018 ما يفوق 36 مليون دولار على تلك الجماعات من خلال ترتيب اجتماعات مع أعضاء في الكونغرس، وقيادة الحملات الإعلامية، ونسج الحيل الدعائية، وتسخير مراكز الأبحاث الأميركية المرموقة لخدمة سياساتها الثعبانية، وهذا ما أهَّلها لاحتلال المركز الخامس ضمن أبرز عشر دول تقوم بالإنفاق على جماعات الضغط الأميركية، وفقاً لموقع تسجيل العملاء الأجانب FARA التابع لوزارة العدل الأميركية، وبذلك تتمكَّن الإمارات من اجتياز الحاجز الشائك للانتقادات الدولية في كل مرّة.
كما ساهم حكام الإمارات إلى جانب حكام المملكة العربية السعودية في تقديم 3 مليارات دولار في 21 أبريل سنة 2019 كمساعدة للسودان، في محاولة لتعزيز دور المجلس العسكري الانتقالي الذي تولَّى السلطة من أجل شلّ المفاوضات مع المعارضة السودانية.
وتنفق الإمارات سنوياً مبالغ ضخمة على شراء أحدث الأسلحة الأميركية، كالصواريخ المضادة، الدبابات عالية التقنية، طائرات الأباتشي وطائرات البنادق نصف الآلية، من أجل توزيعها على الجماعات الحليفة لها في ليبيا واليمن والسودان.
تتوجَّه أصابع الاتهام علناً إلى محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في دولة الإمارات، لكونه العقل المدبِّر الذي يقف وراء العديد من النزاعات التي هزَّت المنطقة العربية، وسلبت شعوبها الأمن والاستقرار، فقد اشترى أسلحة أميركية بحوالي 27 مليار دولار على مدار العقد الماضي، ونشرها في كل أنحاء الدول التي صمَّم على معاداة الميول الديمقراطية فيها، كما ينفق هذا الحاكم ذو الغرائز الاستبدادية المبالغ الطائلة بهدف تكرار نموذج الانقلاب المصري لعام 2013 في كل الدول العربية، التي تطمح شعوبها إلى الانتقال الديمقراطي، بسبب خوفه من وصول تأثير "الدومينو" التي تسقط بالتتالي عند سقوط القطعة الأولى، فقد قام ببناء قواعد للقوات الجوية في اليمن وشرق ليبيا، ولم يكتف بذلك فحسب بل وكَّل للشركات الإماراتية مهمّة تهريب النفط الليبي عبر طرق غير رسمية بالتعاون مع حفتر، لأنّ ليبيا المستقرّة والديمقراطية ستسحب بساط المنافسة تدريجياً من تحت الإمارات، وستصبح مقراً لأهمّ الاستثمارات الأجنبية.
لا تمانع الإمارات في التآمر ضدّ أيّ دولة عربية تحاول إلهام دعوات أخرى للديمقراطية في المنطقة، وتستمدّ شجاعتها وعزمها على ذلك من خزينتها وثرواتها التي لا تنضب، فوفقاً لتقرير معهد صناديق الثروة السيادية الصادر سنة 2019، تستحوذ دولة الإمارات على ما يقارب 1.191 تريليون دولار من إجمالي أصول الصناديق السيادية العالمية، أي ما يعادل ثلث إجمالي الناتج المحلي لقارة أفريقيا.
كما قُدِّرت احتياطيات النقد الأجنبي لدولة الإمارات بـ 106 مليارات دولار في نهاية سنة 2019، وبلغ نصيب الفرد الإماراتي من الناتج المحلي الإجمالي 37.75 ألف دولار سنة 2019 وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي.
طبعاً هذه الدولة الغنية أتمت أغلب المهام اتجاه مواطنيها كمحاربة الفقر وتحسين المستوى المعيشي للمواطن الإماراتي، وبدلاً من الشروع في المهام الإنسانية كمساعدة الدول العربية الفقيرة، ها هي تقوم بتسخير فوائضها المالية لقمع الحريات ومنع ولادة دول ديمقراطية في العالم العربي، والأخطر من ذلك أنّ الغرب بقيادة أميركا ودونالد ترامب، المتعطِّش للمال ولا شيء غير المال، يزيِّن للإمارات سوء عملها ويعينها على اتّباع أهوائها.
لقد منح سوء استخدام أموال النفط دولة الإمارات العربية المتحدة سجلاًّ حالك السواد في الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان، سواءً في الداخل أو في الخارج، لا سيَّما في الدول العربية التي تعاني من الحروب والنزاعات، فقد ندَّد تقرير "هيومن رايتس ووتش" العالمي لسنة 2020 بالاستخفاف الكبير الذي تبديه الإمارات تجاه حقوق الإنسان وسيادة القانون، وأكَّد التقرير أيضاً على التناقض الكبير بين قناع التسامح الذي يصرّ حكام الإمارات على ارتدائه، وتعدِّيهم الصارخ على حقوق الإنسان.
لا تجرؤ سيادة القانون ولا حتى المساءلة على كبح جماح الحكام الإماراتيين، ولن تردعهم عن التخفيف من تدخلاتهم الشيطانية في مصائر الشعوب العربية، حتى الولايات المتحدة الأميركية التي تحرِّك الدمى في المنطقة لم تتمكَّن بقرارها المتعلق بدراسة ملف وقف بيع الأسلحة للإمارات من وضع حدّ للتعطُّش الإماراتي للتسلُّح، بهدف محاربة الديمقراطية التي قد تصل مستقبلاً إلى عقر دار الحكام الإماراتيين وتكتب نهاية لطغيانهم وبذخهم، فقد أبرمت الإمارات سنة 2018 صفقة لشراء أحدث وأقوى الأسلحة الروسية.
يُحمِّل المجتمع الدولي الرئيس الأميركي ترامب مسؤولية تمادي الإمارات في العبث بأمن واستقرار الدول العربية الهشّة، والاستمرار في نشر الفوضى والفتن ولعب الدور التخريبي في المنطقة، وكيف لا وظمأ ترامب لا يرتوي إلا بالأموال الخليجية؟
خلاصة القول إنّ جهود الإمارات الحثيثة والمُكلفة، لرسم صورة وردية عن تسامحها وحرصها على الظهور في مقدمة الدول الراعية للسلم والتعايش، ستظلّ عقيمة ما لم تمض قدماً في إصلاحات حقيقية وجذرية، وستظلّ تلك الرؤية الوردية خيالية ما لم تتراجع الإمارات عن إصرارها على محاربة الديمقراطية في العالم العربي، فالأجدر بها أن تعود لسابق عهدها لرفع شعبيتها على الصعيد الدولي، فالوقوف في وجه التغيير سيرتدّ عليها لا محالة.