بالمعايير الاقتصادية، فإن سعر صرف الليرة التركية لا بد من أن يشهد ارتفاعا مقابل العملات الرئيسية، وفي مقدمتها الدولار واليورو، وليس تراجعا كما يحدث حاليا، لأن اقتصاد تركيا شهد تحسنا ملحوظا في العام 2017.
فقد اقتربت قيمة الصادرات من 160 مليار دولار، وحققت البلاد نمواً تجاوز 7.2%، بما يفوق المعدلات المحققة في دول مجموعة الثمانية الصناعية الكبرى، أو حتى دول مجموعة العشرين، كما حققت تركيا طفرة في إيرادات السياحة والاستثمارات المباشرة وقطاعات الصناعة والخدمات والبناء والتشييد والمقاولات وغيرها.
وبالمعايير المالية، فإن تركيا تمتلك احتياطياً ضخماً من النقد الأجنبي يتجاوز 120 مليار دولار، وهو احتياطي كاف للدفاع عن الليرة وإحباط أي مضاربات تستهدف إضعافها، كما أنه كاف لسداد أعباء الديون الخارجية المستحقة على البلاد وتغطية كلفة الواردات.
وبالمعايير السياسية، فإن سعر صرف الليرة التركية ينبغي أن يشهد أيضا ارتفاعا، خصوصا مع استقرار سياسي وأمني ملحوظ في البلاد، بعدما تجاوزت تركيا المرحلة الصعبة في تاريخها السياسي الحديث، وأقصد هنا مراحل الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو 2016 وتعديل الدستور والنظام الرئاسي والحوادث الإرهابية في الداخل، كما حققت القوات التركية انتصارات على الجماعات الإرهابية، سواء في داخل سورية أو على الحدود التركية- السورية والتركية- العراقية.
واستطاعت القيادة التركية "تصفير" المشكلات الاقتصادية مع قوى عالمية كبرى، منها روسيا وإيران على الرغم من وجود خلافات سياسية بين جميع الأطراف، كما حسنت تركيا علاقاتها مع الصين والهند ودول الخليج ودول عربية وأفريقية، وتراجعت التوترات بين واشنطن وأنقرة، ولم يبق سوى المناوشات التي تحدث من حين إلى آخر بين تركيا ودول في الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها ألمانيا.
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تتراجع الليرة التركية مقابل الدولار باستمرار؟ ولماذا تهتزّ صورتها النمطية التي ما انفكّت تتباهى بها حكومة العدالة والتنمية؟
قد يخرج علينا بعضهم بمبرر سريع ليقول إن تركيا مستهدفة من أعدائها، وإن المتآمرين يحاولون إثارة اضطرابات داخل سوق الصرف التركي وضرب العملة الوطنية وإثارة قلق المستثمرين الأجانب والمحللين وعرقلة محاولات الحكومة انعاش مناخ الاستثمار وجذب استثمارات خارجية لتأسيس مشروعات بهدف خلق فرص عمل خاصة للشباب وزيادة الصادرات الخارجية وزيادة السيولة الدولارية.
هذا احتمال وارد، ويمكن أخذه في الاعتبار عندما نحاول تفسير أسباب حركة تراجع الليرة التركية مقابل الدولار الأخيرة، لكنه يظل أحد الاحتمالات. فهناك أسباب أخرى أكثر أهمية يجب أخذها في الحُسبان.
وقد يخرج علينا من يقول إن السلطات التركية تتعمد إضعاف الليرة، لأن هذا في مصلحتها وليس ضدها كما يظن البعض، فتراجع الليرة مقابل الدولار يساهم في زيادة الصادرات وإنعاش السياحة وجذب استثمارات خارجية، بخاصةٍ في قطاع العقارات وااستثمارات المباشرة. لكن على رغم وجاهة هذا الاحتمال، إلا أنه يظل ضعيفا إذا ما تابعنا تصريحات كبار المسؤولين السياسيين الأتراك المتشنجة أحياناً عقب أي تراجع في سعر صرف الليرة.
أزمة الليرة التركية تكمن في أننا بتنا أمام قوّتين متخاصمتين في تركيا، قوة صانع القرارات السياسية والمالية والاقتصادية مقابل قوة صانع السياسة النقدية.
القوة الأولى: يتزعمها أردوغان وحكومته، وتتلخص وجهة نظرها في ضرورة خفض سعر الفائدة لسببين: الأول اقتصادي وهو تشجيع الاستثمار، لأن خفض تكلفة الحصول على الأموال الممنوحة من البنوك يشجع المستثمرين على الاقتراض، وبالتالي توسيع مشروعاتهم، وهذا تنجم عنه إقامة مشروعات جديدة تساعد في توفير فرص عمل للشباب وتستوعب العمالة الوافدة خاصة من سورية. والسبب الثاني ديني، ويكمن في أن سعر الفائدة العالي يدخل في إطار الربا المحرّم شرعا، وفقاً لقواعد الشريعة الإسلامية.
القوة الثانية: يقودها البنك المركزي الذي يرى أن حل أزمة الليرة وغيرها من الأزمات الاقتصادية، مثل التضخم وارتفاع الأسعار، يكمن في ضرورة زيادة أسعار الفائدة وليس خفضها كما تطالب القوة الأولى، لأن الزيادة تحقق عدة أهداف، منها زيادة جاذبية الليرة للاستثمار وزيادة الودائع ومعدلات الادخار بها، وهذا يخفف الضغط على الطلب على الدولار وحيازة النقد الأجنبي بشكل عام، وفي حال تراجع الطلب تقوى الليرة.
كما أن زيادة معدل التضخم لأكثر من 10% تفرض على صانع السياسة النقدية ألا تكون أسعار الفائدة السائدة في البنوك أقل من التضخم حتى لا يحدث تآكل للمدخرات المحلية ويندفع المودعون نحو حيازة العملات الأجنبية على حساب عملة بلادهم.
هذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجه تركيا وعملتها حاليا، ويبدو أنها ستستمر في حال تمسك كل فريق بوجهة نظره، لكن يجب التنبيه هنا إلى أن ما يحدث في تركيا ليس حالة شاذة، فكل دول العالم تشهد خلافات بين صانعي السياسات النقدية والمالية والاقتصادية، وغالبا ما يتم إرساء قوانين لإدارة هذا الخلاف على نحو ايجابي لمصلحة الاقتصاد الوطني، وغالبا ما تمنح هذه القوانين البنك المركزي استقلالية واسعة في إدارة السياسة النقدية وتحديد اتجاهات أسعار الفائدة والصرف، فيما تحظر القوانين على الحكومة التدخل في قرارات البنوك المركزية.
صحيح أن أردوغان لم يتدخل مباشرة في قرارات البنك المركزي وإدارة السياسة النقدية، ولم يرغم البنك على اصدار قرارا بخفض سعر الفائدة، وصحيح كذلك أنه لا يزال يحترم استقلالية البنك المركزي فلم نسمع مثلا أنه أقال محافظ البنك أو مجلس إدارته، بيد أنه يمارس سياسة الضغط الأدبي على البنك المركزي لخفض الفائدة من حين لأخر، كما يهاجم البنك المركزي من حين إلى آخر أيضا بسبب عدم اتخاذ قرار الخفض، وهو ما يعطي انطباعا للأسواق والمستثمرين بمحاولة تدخل صانع القرار السياسي في إدارة السياسة النقدية وتفضيل مصلحة المستثمرين والاقتصاد على حساب المستهلكين والمودعين والمدخرين والسوق.
علاج تراجع سعر صرف الليرة التركية يبدأ من توقّف أردوغان عن مهاجمة البنك المركزي ومحاولته التدخل من حين لأخر في إدارة السياسة النقدية، ولو حتى بالضغط المعنوي أو انتقاده علناً.