تخطط تونس للانتقال إلى مرحلة التعامل المالي الرقمي والتقليص من السيولة المتداولة عبر حزمة إجراءات مشتركة بين الحكومة والبنك المركزي تهدف إلى محاصرة الأموال المتداولة في أنشطة اقتصاد السوق السوداء.
ورغم أن الحكومة لم تكشف عن تفاصيل هذه الخطة، إلا أنها قالت إن إجراءات سيصادق عليها البرلمان ضمن مشروع قانون الموازنة لن تسمح مستقبلا باعتماد السيولة في إجراء معاملات تجارية أو اقتصادية تفوق قيمتها الـ10 آلاف دينار، أي نحو 3.4 آلاف دولار.
واقترح مشروع قانون المالية المعروض على البرلمان، ضرورة إعلام لجنة التحاليل المالية (أو النيابة العمومية) بعمليات قبول المبالغ المالية نقدا التي تفوق 10 آلاف دينار من طرف مصالح مراقبة.
ويقدر خبراء اقتصاد حجم السيولة المتداولة خارج المصارف التي تخطط الحكومة لاستعادتها بنحو 5 مليارات دينار، ما يعادل 1.7 مليار دولار متداولة يتم استعمالها في تمويل التهريب وأنشطة السوق السوداء.
تضخم حجم الكتلة النقدية المستعملة في الأنشطة الاقتصادية الموازية بشكل لافت في السنوات الثماني الماضية بسبب تفاقم ظاهرة التهريب، ما قد يحبط الخطط التي وضعتها الحكومة، حسب الخبراء.
وقال الخبير المالي محمد الجراية، لـ"لعربي الجديد"، إنه من الصعب تطبيق الفصل المدرج في مشروع قانون المالية للعام القادم، معتبرا أن طرق "التحايل" على القانون متعددة وذلك عبر إمكانية تفكيك العملية المالية الممنوعة بمقتضى هذا الفصل إلى عمليات مالية صغرى لا تتجاوز 5 آلاف دينار.
وأضاف الجراية أن المصارف التجارية بما في ذلك الحكومية منها لا تزال تتلقى السيولة من المتعاملين الاقتصاديين أو بقية العملاء دون التثبت من مصادرها، ما يؤدي إلى مفاقمة هذه الأشكال، مؤكدا أن المهربين يمتلكون حيلا عديدة لمنح الغطاء القانوني لمعاملاتهم.
وأفاد الجراية بأنه يصعب حصر القيمة المالية للسيولة المتداولة خارج المصارف بسبب غياب قواعد بيانات تساعد على إحصائها، مؤكدا أن إحدى دراسات صندوق النقد الدولي حددت قيمتها بنحو 40% من الناتج الداخلي الخام للبلاد المقدر بـ110 مليارات دينار، أي نحو 40 مليار دولار.
وأوضح الخبير المالي في السياق ذاته، عدم جاهزية النظام المصرفي لاستعادة جزء من هذه الكتلة المالية المتداولة في السوق السوداء بسبب ضعف العمليات المالية الرقمية وعدم إدراج تونس ضمن منظومة "البايبال" التي تسهل مراقبة المعاملات المالية التي تجرى بالدينار التونسي أو بالعملة الصعبة، وفق قوله.
ولا يعد الإجراء الحكومي المدرج ضمن مشروع قانون المالية الأول من نوعه، حيث سبق للحكومة أن أدرجت الفصل ذاته في مشاريع قوانين السنوات الماضية قبل أن يسقطه نواب البرلمان.
وسنة 2015 أقر البرلمان قانونا يتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، يحجر على كل الشركات قبول أي مبالغ مالية نقدا تساوي أو تفوق ما يعادل خمسة آلاف دينار ولو تمّ ذلك بمقتضى دفعات متعددة يشتبه في قيام علاقة بينها.
ويعاقب هذا القانون كل مخالف لأحكام فصوله بالسجن من ستة أشهر إلى ثلاثة أعوام وبغرامة من 5000 دينار إلى 10 آلاف دينار، أي ما بين 1.7 و3.5 آلاف دولار.
وأخيرا، أعلن محافظ البنك المركزي مروان العباسي عن بدء المصرف بتنفيذ خطة عمل تهدف إلى الحد من استعمال السيولة، من خلال تخفيض التكاليف المتعلقة بالرقمنة.
وقال العباسي إن هذه الخطة موضوع دراسة يجريها البنك حاليا بالتعاون مع مكتب الدراسات العالمي ارنست ويونغ والبنك الدولي. وتحدث المحافظ عن توقعات باستعادة نحو مليار دينار من عفو مرتقب عن جرائم الصرف.
وبلغ حجم التهريب في الساحة التونسية خلال السنوات الأخيرة التي تلت الثورة، حسب تقديرات البنك الدولي، ما بين 38 و53% من الناتج المحلي الخام، تم تمويله أساسا من خلال تدفقات مالية نقدا وعبر تحويلات بنكية وفتح اعتمادات مستندية متأتية أساسا من ليبيا والجزائر بشكل خاص.
المدير العام السابق للسياسة النقدية بالبنك المركزي محمد سويلم، حمّل في تصريح لـ"العربي الجديد"، المصارف والمؤسسات المالية جزءا من مسؤولية استعادة الكتلة النقدية "المارقة"، معتبرا أن الخدمات التي تقدمها المصارف محدودة ولا تشجع على الادخار وجلب الأموال.
وأضاف أن الأموال المتداولة خارج المصارف متأتية في جزء منها من الأنشطة التجارية الصغرى غير المقننة، مشيرا إلى أن هذا الصنف من التجار "ينفر" من التعامل مع البنوك بسبب ارتفاع كلفة الخدمات البنكية وضعف فوائد الادخار. وشدد على ضرورة مراجعة نسبة فوائد الادخار تماشيا مع ارتفاع نسبة التضخم.
وقال سويلم إن عدم احتواء جزء من الأنشطة الاقتصادية غير المنظمة يساوي خسائر للبنوك ولخزينة الدولة التي تفقد موردا مهما للجباية.
وأفاد المسؤول السابق بالبنك المركزي بأنه يصعب تقديم إحصائيات دقيقة حول وزن القطاع غير الرسمي، إلا أن كل تأخّر في احتوائه يمثل نقصا كبيرا في الإيرادات الضريبية ونقاطا مئوية في نمو الناتج المحلي الإجمالي.
وحدد سويلم ثلاثة مجالات هامة للتصدي لتضخم الكتلة النقدية خارج المصارف، وذلك ببذل جهود إضافية من قبل البنوك لجذب التونسيين غير المتعاملين مع البنوك، والحد من استخدام النقد من خلال الإجراءات المتخذة في مشروع قانون المالية للعام القادم، إلى جانب تشجيع الادخار بمختلف أصنافه.
في مقابل تقليص استعمال السيولة، يطرح قسم آخر من خبراء الاقتصاد حلولا لاحتواء الكتلة المتداولة في الأنشطة الموازية وذلك عبر تغيير الأوراق النقدية من فئة 50 دينارا (أكبر ورقة نقدية يستعملها المهربون) لإجبار المهربين على ضخ هذه الأموال في البنوك وتعزيز مستوى السيولة فيها.
ويؤكد الخبير الاقتصادي والمسؤول عن قسم الدراسات بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (مستقل)، عبد الجليل البدوي، أن تغيير الأوراق النقدية سيمكن من استرجاع الأموال المتداولة لدى الاقتصاد الموازي وأموال المهربين والمتهربين من دفع الضرائب، وهو ما سيعزز المنظومة البنكية المنظمة بمداخيل هامة.
ويقول البدوي إن هذا الإجراء يمكن أن يزيد من حجم الكتلة النقدية بنحو مليار دينار في وقت وجيز في حال تم التسريع في عملية استبدال الأوراق النقدية قبل أن يلوذ المهربون إلى تدويرها وتبييضها في شراء العقارات أو الذهب أو الدولار، وفق تصريحه لـ"العربي الجديد".
وأعلن البنك المركزي على موقعه الإلكتروني أن حجم الكتلة النقدية المتداولة في تونس حتى 20 أغسطس/ آب الماضي يقدر بأكثر من 13 مليار دينار.