التزم حكام مصر منذ أوائل الخمسينيات بعقد اجتماعي غير مكتوب مع المصريين يتمثل في التخلي عن الديمقراطية والحرية، في مقابل الحصول على معيشة رخيصة، ودعم قوي من الدولة للحفاظ على انخفاض أسعار السلع الأساسية والخدمات مثل الخبز والأرز والسكر والوقود والمياه والكهرباء.
الرئيس عبد الفتاح السيسي، الأخير في سلسلة العسكريين الذين تقلدوا سدة الحكم في مصر، اضطر إلى تبني تدابير يصعب تصورها لإنقاذ الاقتصاد المتعثر لأكثر دول العالم العربي سكانا.
كانت تلك هي المرة الأولى التي يتم فيها تعويم الجنيه بحرية، ويخفض الدعم الحكومي بشكل كبير، ما تسبب في ارتفاع كبير في الأسعار في ظل تراجع قيمة الجنيه، وزيادة أسعار الوقود.
هذه الإجراءات التي جاءت تباعا في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني تسببت في حالة من الفزع بين المصريين، حيث ترتفع معدلات الفقر والبطالة والتضخم بالفعل.
في الوقت ذاته، حافظت الحكومة على قبضتها الحديدية على السلطة التي فرضتها العامين الماضيين، فضيقت على الحريات وأطلقت يد قوات الأمن، وسجنت الآلاف وأدارت آلة إعلامية عملت على شيطنة معارضيها.
والسؤال المطروح هو إلى أي مدى سيتمكن السيسي من السيطرة على هذا الاستياء، في الوقت الذي تسود فيه آمال، بأن تقود الإصلاحات إلى نمو اقتصادي يخفف حدة الألم. وبالفعل طالبت بعض الأصوات بإصلاحات سياسية أيضا.
تلقت مصر، الجمعة، مكافأة على التدابير العلاجية الصادمة المؤلمة عندما وافق صندوق النقد الدولي على قرض بقيمة 12 مليار دولار، بينها دفعة فورية بقيمة 2.75 مليار دولار.
ويبقى الأمل في أن يتمكن القرض والإصلاحات من إنقاذ الاقتصاد وتشجيع المستثمرين الدوليين على ضح الاستثمارات مرة أخرى في البلاد.
في يوم الجمعة ذاته، قدم دلائل على قبضة أمنية قوية. فقد أخفقت الدعوات المطالبة ببدء احتجاجات ضد الاجراءات الاقتصادية، ولم يستطع أحد النزول إلى الشوارع.
كانت الشرطة قد حذرت قبل عدة أيام من اتخاذ إجراءات قاسية ضد كل من يستجيب لتلك الدعوات، والتي تلقي باللائمة فيها على جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، لكن محللين قالوا إن الانتقادات الشعبية لن تتوقف.
ويقول خالد داود، المتحدث باسم التحالف الديمقراطي، الذي يضم في عضويته ستة أحزاب تميل إلى يسار الوسط: "الناس غاضبون ومصابون بخيبة أمل تجاه ارتفاع الأسعار، لكن لا توجد قيادة لتنظيم التظاهرات. لكنك لا تستطيع أن تستبعد وقوع شيء بالنظر إلى الغضب المستشري بين المصريين".
ويعيش نحو 40 % من سكان مصر البالغ عددهم 92 مليون شخص تحت أو فوق خط الفقر بقليل، مما يجعلهم الأكثر تأثرا بارتفاع الأسعار حتى ولو كانت صغيرة.
وحتى قبل هذه الاجراءات، شهدت أسعار المواد الغذائية والكهرباء والمياه ارتفاعا ملحوظا. فقد انخفضت قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار، من 8.8 جنيهات للدولار قبل التعويم إلى نحو 17 جنيها.
ولا تزال تظاهرات الخبز التي اندلعت في عام 1977 وأجبرت الرئيس أنور السادات على التراجع عن محاولته خفض الدعم ماثلة في أذهان الجميع.
وعد السيسي وحكومته ببرامج للتخفيف من تأثير هذه الإجراءات، بما في ذلك التحول من الدعم العام إلى المساعدات النقدية التي تستهدف الفقراء وخطوات أوسع لضمان حصول المحتاجين فقط على السلع المدعومة.
وقال أحمد عبد الرؤوف المحلل السياسي في عموده هذا الأسبوع بصحيفة الشروق اليومية المستقلة: "المطلوب الآن هو تحرير المناخ السياسي بالتوازي مع تحرير الاقتصاد من أغلاله". لكن لا توجد مؤشرات واضحة على إمكانية حدوث ذلك.
خلال ثورة 2011 التي أسقطت حسني مبارك، نزل الملايين إلى الشوارع وهتفوا مطالبين بعقد جديد، الخبز والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. لكن البلاد سقطت في أتون أزمات متتالية، الأولى كانت لقرابة 17 شهرا من حكم المجلس العسكري، ولاحقا الرئيس المنتخب، محمد مرسي، الذي حكم لعام واحد.
قاد السيسي الجيش لعزل مرسي في 2013 وانتخب رئيسا بعد عام، واعدا بفرض الاستقرار وتعزيز الاقتصاد، ودشن سلسلة من المشروعات الكبرى التي أدت إلى توغل الدولة والجيش بشكل أكبر في الاقتصاد، لكن الكثير من الاقتصاديين شككوا في جدواها، بما في ذلك التوسعة الجديدة لقناة السويس وخطط استصلاح 1.5 مليون فدان.
في هذه الأثناء عمدت المؤسسات الأمنية إلى حبس الآلاف من الناشطين الإسلاميين واليساريين والعلمانيين، الذين أججوا ثورة 2011.
ودعم قطاع عريض من الشعب المصري هذه الخطوات، مقتنعين بأن الاستقرار يشكل أولوية بالنسبة لهم.
وقال نجاد البرعي، الناشط الحقوقي الذي وضع قيد التحقيق بعد تقدمه باقتراح لتشريع ضد التعذيب "في ظل إدارة السيسي، دخلت مصر عقدا جديدا، هو عقد الخنوع".
وأضاف: "صلاحية هذا المشروع معلقة بمدى رغبة الدولة في سحق معارضيها".
خلال الأسابيع التي سبقت تعويم العملة وارتفاع أسعار الوقود، انتقد مقدم برنامج تليفزيوني موال للحكومة المصريين، متهما إياهم بأنهم لا يعملون بجهد كاف، ويعتمدون كثيرا على الصدقات ويستهلكون الكثير من الغذاء والوقود.
وتحدث أيضا عن مخاوف من إثارة الإخوان الاضطرابات، محذرا من إمكانية وقوع مصر في الفوضى مثل سورية أو العراق ما لم يتم السيطرة على الأوضاع بقبضة حديدية.
وفي خطاباته، طالب السيسي المصريين مرارا بالعمل بجد والاستهلاك بشكل أقل.
ويقول المحلل السياسي البارز عبد الله السناوي إن المصريين يطلب منهم التضحية في الوقت الذي لا تقوم فيه الدولة بذلك.
وقال السناوي في مقاله بصحيفة الشروق يوم الأربعاء: " لكل شيء شروطه ومن بينها، رفع المظالم السياسية بالإفراج دون إبطاء عن الشباب المعتقل وعدالة توزيع الأعباء والتقشف الصارم والملموس في مؤسسات الدولة، ومحاربة الفساد بالإجراءات لا التصريحات وبقدر اتساع المجال العام ينخفض مستوى الخطر".
مايكل حنا، الخبير في الشأن المصري في مؤسسة القرن في نيويورك، قال إن الإجراءات كانت وسيلة متأخرة كان من المفترض أن تطبق في وقت سابق تحت شروط أفضل وظروف أكثر أمنا. الآن يجب على الحكومة أن تظهر قدرتها على قيادة هذه التغييرات.
وأضاف: "السؤال المطروح هو: هل سيشكل ذلك تحولا لشيء ما أكثر ديمومة، وهل الحكومة منضبطة بما يكفي لخوض عملية الإصلاح".
عدد من الاقتصاديين قالوا إن الحكومة لم تضغط فقط لتطبيق الإصلاحات، لكنها رفعت يد الحكومة والجيش عن الاقتصاد للسماح بالاستثمار.
وفي مقال نشر هذا الأسبوع، وصف زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء الأسبق، علاجا يتضمن مراجعة للمشروعات الكبرى للسيسي، لتنظيم تدخل الدولة في الاقتصاد وتحسين مناخ العمل.
ودعا أيضا إلى إصلاح سياسي والذي بدونه "لن ينصلح الأداء الاقتصادي".
وكتب إبراهيم عيسى، الذي ينتقد السيسي، هذا الأسبوع في صحيفة المقال اليومية يقول إن الغضب الشعبي مرتفع، وإن السلطات تعرف أن غياب النقد حتى الآن، ليس سوى "هدوء مصطنع".
وقال إن الوضع أشبه بطبقة من الجليد تغطي بحيرة من الغضب والقلق والانزعاج والرفض لسياسات النظام الحالي.
(أسوشيتدبرس)