لا يتوقّف الطيران الحربي السوري والروسي عن التحليق في أجواء حلب التي كانت يوماً ما العاصمة الاقتصادية للبلاد. أمّا غاراته، فلا تستهدف تجمعات مسلحة تابعة للمعارضة بقدر استهدافها المدنيين حتى في المستشفيات.
تُظهر لقطات سجلتها كاميرات داخلية في مستشفى عمر بن عبد العزيز في حي المعادي في الجزء الشرقي من مدينة حلب (شمال سورية)، وهو الحيّ الخاضع لسيطرة المعارضة، لحظات تعرّض المستشفى في منتصف الشهر الماضي إلى قصف من الطيران الحربي الروسي أو النظامي السوري. هناك تساقط العديد من القذائف والصواريخ، بينما المرضى راقدون في أسرّتهم، والمراجعون والأطباء يجوبون الممرّات، ما أسفر عن إصابة عدد منهم، وإحداث أضرار جسيمة في مبنى المستشفى ومعداتها.
تجمع المنظمات الدولية، سواء الصحية أو الحقوقية على القول إنّ استهداف المراكز الصحية في سورية سياسة ممنهجة تتبعها قوات النظام منذ أوائل شهور اندلاع الثورة السورية. وقد سارت على هذه السياسة الطائرات الروسية بعد التدخل في سورية في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي.
بدأ استهداف الأطباء وعمال الإغاثة منذ الأشهر الأولى لاندلاع الثورة مع اغتيال طبيب في درعا، ثم اعتقال بعض الأطباء والمسعفين في حلب. وزادت وتيرة الهجمات عام 2012، حتى إنّ النظام السوري أصدر قانوناً في يوليو/ تموز من ذلك العام يجرّم فيه عمليات تقديم الرعاية الطبية لأيّ شخص يشتبه بأنه معارض للنظام. وخلص تقرير أعده مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في سبتمبر 2014 إلى أنّ "القوات النظامية تتبع سياسة منسقة تقضي بمنع المساعدة الطبية عن المنتسبين أو المؤيِّدين للمعارضة".
جرائم حرب
في العام الماضي، أفادت طواقم طبية تدعمها منظمة "أطباء بلا حدود" أنّ الهجمات المتصاعدة التي بدأت في أواخر سبتمبر وامتدت طوال أكتوبر/ تشرين الأول استهدفت 12 مستشفى في محافظات إدلب وحلب وحماة، من بينها 6 مستشفيات تدعمها المنظمة. تقول المنظمة إنّ المستشفيات تتعرض للاستهداف بشكل منتظم، مشيرة إلى أنّ 90 في المائة من الهجمات على المنشآت الطبية في سورية نفذتها القوات الحكومية أو المليشيات الموالية لها.
من جهتها، جمعت "منظمة العفو الدولية" أدلّة حول ما لا يقل عن ست هجمات متعمدة على المستشفيات والمراكز الطبية والعيادات في الجزء الشمالي من محافظة ريف حلب بين ديسمبر/ كانون الأول 2015 وفبراير/ شباط 2016. واعتبرت المنظمة أنّ تلك الهجمات تواصل نمط استهداف المرافق الصحية في مختلف أنحاء سورية، وهو ما يرقى إلى مستوى جرائم الحرب.
وحول الهجوم على مستشفى عمر بن عبد العزيز، يومي 14 و 16 يوليو/ تموز الماضي، قالت منظمة الصحة العالمية
إنّ المستشفى المذكورة تعرضت إلى ثلاث هجمات خلال 45 يوماً منذ يونيو/ حزيران الماضي. وأشارت إلى أنّ المستشفى كانت تقدم كلّ شهر نحو 5500 استشارة علاجية في العيادات الخارجية، و125 عملية ولادة، و74 ولادة قيصرية، و143 عملية جراحية كبرى.
وفي 14 يوليو الماضي كذلك، تعرضت المستشفى الميدانية في كفر حمرة في ريف حلب الشمالي إلى أضرار كبيرة نتيجة القصف، ما تسبب بمقتل شخص، وإصابة آخرين، وتدمير سيارة إسعاف وإصابة سائقها ما أدى الى خروجه عن الخدمة.
وأوضحت المنظمة أنها أُبلغت يوم 11 يوليو الماضي بتعرض إحدى المستشفيات في إدلب، شمالي البلاد، إلى القصف، مما أسفر عن مقتل ثلاثة مدنيين، وتوقف المستشفى عن العمل بعدما كانت تقدم كلّ شهر أكثر من 2000 استشارة علاجية في العيادات الخارجية، ونحو 90 عملية جراحية كبيرة.
واعتبرت أنّ هذا الاستهداف يمثل انتكاسة خطيرة للمجتمعات المحلية المتضررة، ويفرض تحدياً إضافياً أمام الأعمال الإنسانية في سورية. كذلك، أشارت إلى وجود معطيات حول تعرض مرافق الرعاية الصحية في أنحاء سورية لنحو 40 هجوماً العام الحالي، علماً أنّ نحو 60 في المائة من المستشفيات العامة في البلاد أغلقت أو تعمل بطاقة جزئية فقط.
وكانت أكبر مجزرة تعرضت لها المستشفيات في حلب وريفها قبل أيام، حين خرجت خمس منها عن الخدمة في يوم واحد جراء القصف العنيف من جانب الطائرات الروسية والنظامية السورية، وهي: مستشفى الحكيم للأطفال، ومستشفى الزهراء، ومستشفى البيان، ومستشفى الدقاق، ومستشفى الأتارب في ريف حلب الغربي.
ومن أسوأ عمليات الاستهداف للمستشفيات في حلب، تلك التي طاولت قبل نحو شهرين مستشفى القدس، وأدت إلى مقتل طبيب الأطفال الوحيد في شرقي المدينة محمد وسيم معاذ، فضلاً عن مقتل 50 آخرين من العاملين في المستشفى والمراجعين. وهو قصف تشير تقارير إلى أنّ طائرات روسية مسؤولة عنه.
سياسة تهجير
وفي أحدث استهداف للمراكز الطبية، شن الطيران السوري الأسبوع الماضي غارات على مستشفى في مدينة جاسم في ريف درعا ما أدى الى مقتل 7 أشخاص وتدمير المستشفى بشكل كامل.
يقول وزير الصحة في الحكومة السورية المؤقتة فراس الجندي إنّ نحو 57 في المائة من المستشفيات في سورية دمرت بشكل متعمد من جانب قوات النظام. يوضح أنّ هذا الاستهداف للمستشفيات يأتي في إطار سياسة النظام لتهجير السكان من مناطقهم، لأنّ وجودها شرط أساسي للاستقرار السكاني. ولا يغيب عن البال أنّ النظام السوري يعمل على تغيير الخريطة الديموغرافية للبلاد عبر تهجير بعض السكان من مناطقهم على خلفية طائفية. كذلك، فإنّ المقاتل المعارض تنهار معنوياته في حال عدم وجود مستشفى مهيأة لاستقباله عند الإصابة.
يشير الجندي إلى أنّ تدمير المستشفيات كثيراً ما تسبب في وفاة المصابين أو إصابتهم بعاهات دائمة نتيجة عدم تلقيهم الإسعافات الضرورية. ويؤكد أنّ المنشآت الطبية مستهدفة بالتحديد، فقد استهدفت مستشفيات تابعة لمنظمة "أطباء بلا حدود" تقع في مناطق مدنية، ولا يوجد فيها أيّ تجمعات عسكرية كما يقول. ويشير إلى أنّ الكثير من المستشفيات ضربت بهدف إخراجها عن الخدمة، وضرب الأمن الصحي في تلك المناطق ودفع السكان إلى مغادرتها.
وبحسب بيان تلاه أمام مجلس الأمن الذي عقد جلسة طارئة مطلع مايو/ أيار الماضي لمناقشة استهداف المراكز الطبية في سورية، قال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إنّ المنظمات الطبية غير الحكومية التي تُعنى بحقوق الإنسان، وثقت 360 هجوماً على المرافق الطبية، أدت الى مقتل أكثر من 730 عاملاً طبياً. واتهمت المنظمات قوات النظام السوري وحلفاءه بالوقوف وراء معظم تلك الهجمات.
يومها، حمّل بان كي مون قوات النظام السوري المسؤولية عن الغارة التي استهدفت مستشفى القدس، مشيراً إلى أنّ "القوات الحكومية السورية تزيل الإمدادات الطبية من القوافل الإنسانية بطريقة ممنهجة". ولفت إلى أنّ نحو نصف المرافق الطبية في سورية مغلقة اليوم أو تعمل بشكل جزئي فقط.
وتعاني مجمل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بشكل خاص، من غياب واضح للأطباء الاختصاصيين، تحديداً أطباء التخدير والأمراض العصبية والجراحة العامة.
المكان الأخطر
كذلك، يوجد نقص حاد في أعداد الممرضين ما يدفع إلى الاستعانة بأشخاص غير مؤهلين لمزاولة هذا العمل بعد خضوعهم لدورات سريعة في الإسعافات الأولية. وقد أدى هذا النقص الى وفاة الكثير من المصابين أو التسبب لهم بعاهات دائمة، فيما تتعثر محاولات نقل المصابين خارج الحدود سواء إلى الأردن أو تركيا بسبب الوضع الأمني، وعدم فتح دول الجوار أبوابها في كلّ الأوقات لاستقبال المصابين الذين كثيراً ما يصلون بعد فوات الأوان.
من جهته، يقول الدكتور حمزة الخطيب مدير مستشفى القدس لـ"العربي الجديد" إنّ "النظام وروسيا يحاولان في قصفهما للمستشفيات تهجير المدنيين والتأثير في معنوياتهم كونهم الحاضنة الشعبية للمعارضة". وعن طبيعة العمل في المستشفيات، يضيف: "جميع العاملين في المستشفيات يدركون الخطر الذي ينتظرهم، لكنّهم أخذوا على عاتقهم مسؤولية إنقاذ الجرحى والأطفال والنساء، الذين أصرّوا على الصمود في أرضهم حتى آخر قطرة من دمهم".
تصف بعض المنظمات الدولية سورية أنّها المكان الأخطر في العالم بالنسبة للأطباء والممرضين. ويعود ذلك إلى السياسة التي يتبعها النظام السوري وحلفاؤه في تحويل جميع المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة إلى أماكن غير صالحة للعيش، من خلال استهداف الأطباء والمسعفين الذين يشكلون ركيزة أساسية في مجتمعات السلم والحرب على حدّ سواء.