خمسة فتية اتفقوا على مواجهة شرطي الحيّ، فكتبوا شعارات مناهضة للنظام السوري على حائط المدرسة الذي منعهم من الجلوس عنده، فكانت الشرارة الأولى للثورة. ماذا يروي أحدهم لـ"العربي الجديد"؟
يجلس معاوية صياصنة، اليوم، وهو أحد الذين تسببوا بانطلاق شرارة الثورة السورية عن غير قصد منهم في مارس/ آذار عام 2011، ويطلق عليه اسم "طفل الثورة"، في منزله شبه المدمر بمدينته درعا، يترقب ما قد تحمله له الأيام أو الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة بعدما وقّعت الفصائل المسلحة التي تسيطر حيث يقطن، على تسوية ذهبت بأحلامه بعيداً.
الصياصنة ابن الثالثة والعشرين، اليوم، المقيم في حي الأربعين بدرعا البلد، يبدي قلقه وعدم علمه بما سيفعل، في اتصاله مع "العربي الجديد". يقول: "خرج كثير من أصدقائي وأقاربي من درعا البلد إلى الشمال السوري، على مسؤوليتهم، والروس قالوا لنا إنّ الوضع هنا سيكون أفضل من الشمال، وإنهم سيفتحون صفحة جديدة ويجرون تسوية عامة للجميع، وإلى الآن لا أعلم أين أذهب وماذا سأفعل، فلا مكان أذهب إليه، إذ أغلق الأردن حدوده، وقيل لي إنّ الدخول إلى تركيا مكلف جداً، ويصل إلى خمسة آلاف دولار أميركي إن وجد طريق، وهذا مبلغ كبير جداً بالنسبة لي. قبل أسابيع من التسوية لم أكن أتصور أن أسأل عن سبل مغادرة مدينتي، أما اليوم فأصبحت أتمنى أن أجد فرصة للسفر خارج البلاد، لكن إلى اليوم أنا باقٍ في منزلي ولا أعلم ما الذي سيكون عليه مصيري".
"إجاك الدور"
معاوية كتب على حائط مدرسته، وهو في سن 15 عاماً عبارات مناهضة للنظام، متأثراً بحراك "الربيع العربي" في تونس ومصر، مثل "إجاك الدور يا دكتور" و"حرية"، كانت سبباً مباشراً في إشعال ثورة في عموم البلاد، فأتمّت سنتها الثامنة من العنف الدامي والقتل والتهجير. هو ينتظر في الوقت الراهن، نتائج الاتفاق الذي وقع في جنوب سورية مع الروس، والذي قد يضعه في صفوف القوات النظامية، يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية، التي قاتل ضدها لسنوات، بالرغم من أنّ الروس تعهدوا لهم بأن تكون خدمته وغيره من أبناء المناطق التي كانت تخضع لسيطرة الفصائل المسلحة، في منطقة الجنوب السوري، بحسب قوله.
يعيش الصياصنة كثيراً من القلق والضغط النفسي، لكنّ صور ذكرياته تتزاحم أمام عينيه، مذ بدأ يفكر مع أصدقائه بالكتابة على جدران مدرسته، ليغيظ ذلك الشرطي الذي كان يعنّفهم ويمنعهم من الجلوس ليلاً إلى جانب مدرستهم: "كنت ومجموعة من أصدقائي قد اعتدنا أن نجلس على الرصيف عند إحدى زوايا المدرسة الخارجية، قبل أن يجري توزيع نقاط للشرطة لحراسة الحارات كما كنت أسمع، إذ بدأ عناصر الشرطة في شارعنا بمنعنا من البقاء في زاويتنا بعد غياب الشمس، الأمر الذي أثار غضبنا وجعلنا نشعر بالقهر". يتابع: "كنا جميعاً، نتابع أخبار تظاهرات تونس ومصر وهتافات الحرية وإسقاط النظام، وأذكر أحاديث الناس حينها، كيف كانت غالبيتها تدور حول ما يحدث في هذه الدول، مبدين تعاطفهم مع شعوبها".
يضيف: "كنت وأصدقائي مستائين من نقاط الحراسة التي حرمتنا من متنفسنا اليومي، ولم يكن في المدينة أيّ مشاكل كي يضعوا هذه النقاط، فقررنا أن نضايقهم كما يضايقوننا، فجمعنا من مصروفنا الشخصي ثمن علبة دهان بخاخ، كان ثمنها يومها 100 ليرة سورية، لكن بالنسبة لأطفال مثلنا كان المبلغ كبيراً". يلفت إلى أنّ "قرار الكتابة على الجدار لم يكن سهلاً علينا، فقد تحدثنا به طويلاً، وقد كنت الأكثر اندفاعاً من بين أصدقائي، فأخذت أشجعهم، إذ كنا نخاف أن يرانا أحد، ويخبر الشرطي في نقطة الحراسة، وفي النهاية اتفقنا، وتسللنا ليلاً إلى مدرستنا وكتبنا على جدرانها كلمة حرية، وعبارة جاك الدور يا دكتور". يتابع: "يومها، كنا خمسة أشخاص أنا وأحمد ثاني، ما زلنا في المدينة إلى اليوم، وسامر صياصنة ومعتز رشيدات وحمد أبازيد، وهؤلاء هم اليوم خارج سورية، كنا في سنّ 15 عاماً و16، ما عدا أحمد الذي كان في الثامنة عشرة، وهو كان خارج المدرسة، لكنّه من أبناء الحي المعتادين الذهاب إلى زاويتها للجلوس معنا". يضيف: "بعدما كتبنا على الجدران تسللنا إلى منازلنا، كنا نريد أن يرى الشرطي في نقطة الحراسة في صباح اليوم التالي ما كتبناه، علّه يوبخ من قادته وينقلونه من شارعنا، فلم يخطر في بالنا أن يحدث ما حدث، وتنقلب إلى حرب. كان الخوف من أن يعرفنا أحدهم كبيراً. في الصباح، كان الأمن السياسي يملأ المدرسة والشوارع المحيطة بها، وعقب يومين بدأ النظام يعتقل كلّ من كان يتردد على زاوية المدرسة ونحن كنا من بينهم".
في المعتقل
يقول صياصنة: "اعتقلت من منزلي في الساعة الرابعة فجراً، ولم يكن أهلي يعلمون شيئاً مما فعلناه. وضعوا القيود في يديّ، ووضعوني في السيارة، وبدأ الضرب. لم أكن أستطيع أن أميز من أين يأتيني الضرب. وبعدما وصلنا حقق معي حينها ملازم يدعى جهاد، سألني من الذي كتب على الجدران وعدة أسئلة غيرها، لكنّ جميع إجاباتي كانت: لا أعلم. كان الخوف يسيطر عليّ، فهم لم يعلموا أنّي الفاعل وتلقيت كلّ هذا الضرب، فكيف إن علموا!؟". يتابع: "بعد عدة أسئلة، أمر الملازم العناصر أن يأخذوني، لكن سرعان ما وضعوني في غرفة وبدأوا ينهالون عليّ بالضرب، وكانت بداية طريق طويل من التعذيب، إذ صعقنا بعصيّ الكهرباء، وجرى تعليقنا من أيدينا أو أرجلنا بالسقف، مع ضربنا بالفلقة على الأقدام، وضربنا على الأصابع، وحرماننا من النوم، فكلما نمنا رشقونا بالماء، وننام على الأرض من دون أيّ فرش أو أغطية، بالرغم من البرد الشديد، بالإضافة إلى كيل السباب والإهانات الذي لا يتوقف. وحتى الطعام كان في معظم الأيام خبزاً فقط".
يلفت إلى أنّ التعذيب كان شديداً، ما أجبره بعد نحو خمسة أيام على الاعتراف، "اعترف معي أحمد، بعدما اتفقنا على ذلك في الزنزانة، وبرأنا بقية الشبان فلم يكونوا قد اعترفوا بعد، ولم نكن نستطيع تحمل التعذيب أكثر، واستمر اعتقالي نحو 45 يوماً، زرت فيها جميع أفرع الأمن، أما أحمد فبقي نحو 3 أشهر، لأنّه يكبرنا سنّاً. والبقية خرجوا بعد اعترافنا، وكان هناك عشرات المعتقلين ممن لا ذنب لهم".
ويذكر في حديثه أنّه عندما خرج من المعتقل، لم يكن يعلم أنّ هناك تظاهرات ضد النظام، كما حدث في دول أخرى: "أحسست يومها بالسعادة. كان المشهد يوم خرجت من المعتقل صادماً، فقد تجمع الأهالي في منزل عائلتي لتهنئتي بالسلامة، وبدأت أخرج في التظاهرات، لكن سرعان ما أصبحت القوات النظامية تطلق النار على المتظاهرين، ما تسبب في سقوط قتلى وجرحى، ما دفع لانتفاضة الناس بشكل أكبر".
لم يكن صياصنة يعرف أنه وأصدقاءه، السبب الذي جعل أهل منطقته يثورون على النظام، وأنّ الشرارة التي افتعلها ببراءة، أطلقت صرخة السوريين بوجه أكثر من نصف قرن من الاستبداد والظلم والقهر والتهميش، وهي صرخة تطالب بالحرية والكرامة والعدل. ومع تراجع التظاهرات السلمية والتحول إلى العمل العسكري، حمل معاوية وصديقه أحمد السلاح والتحقا بفصيل "18 آذار" بمدينة درعا، الأمر الذي يعتبرانه "جهاداً فرض عين" بحسب قوله، وخصوصاً أنه لم يكمل دراسته فمدرسته وغيرها من المدارس في المدينة قد أغلقت أبوابها، مع تطور الأحداث.
معاوية الذي يحلم بالسفر، ويجهل ما يخبَأ له في درعا، كان يحلم قبل فترة قصيرة بـ"سقوط النظام، والعيش بأمان وحرية". وبالرغم من ذلك، يقول: "لو عاد بي الزمن اليوم إلى الوراء لما كتبت على ذلك الجدار ما كتبت"، لكنّ ذلك نتيجة وعيه بالقهر والظلم: "لم أكن أعلم أنّ ذلك سيتسبب بضرر كثير من الناس، وأنه سيدمر الشعب". يستدرك: "كان على أهالينا أن يقوموا بثورة منذ زمن، لكنّهم كانوا خائفين، فأنا أذكر كلما تحدثوا عن النظام، كانوا يقولون أخفضوا أصواتكم فللجدران آذان".
يشار إلى أنّ مدينة درعا كانت مهد الحراك الشعبي المطالب بالحرية والكرامة والعدالة، الذي طاول مختلف المناطق السورية، وتمت مواجهتها من النظام بعنف غير مسبوق، ما حوّلها إلى مواجهة مسلحة، تسببت بمقتل مئات آلاف الأشخاص وتهجير ونزوح نحو نصف الشعب السوري داخل بلاده وخارجها، بالإضافة إلى مئات آلاف المعتقلين والمفقودين والمخطوفين.