عندما يموت أحد أفراد العائلة أو أحد الأصدقاء، غالباً ما نخفي الحقيقة عن أطفالنا. نظنّ أنّنا بذلك نحميهم من الصدمة ونجنّبهم الحزن.. "هم ما زالوا صغاراً على ذلك". لكنّ ذلك ليس التصرّف الأفضل.
قدر المستطاع، يحاول الأهل إبقاء أطفالهم بعيدين عن أخبار الموت والقتل والمرض، لعلّهم يحمونهم من صدمات حزن في وقت مبكر. لكنّ هؤلاء لا يدركون أنّهم بذلك قد يلحقون أذى نفسياً بصغارهم، الأمر الذي من شأنه أن ينعكس سلباً على شخصيتهم في المستقبل. كذلك هو الأمر بالنسبة إلى الأهل، الذين لا يأبهون لمدى إفراطهم في تحميل أبنائهم المسؤولية منذ الصغر، فيخبرونهم الحقيقة بقسوة ومن دون مراعاة لمشاعرهم أو مخاوفهم، التي لا بدّ من أن تظهر في وقت لاحق.
"أكبر خطأ يرتكبه الأهل هو إخفاء خبر الموت عن الطفل والكذب وتلفيق قصص لا صحّة لها في الواقع"، هذا ما تؤكّده المعالجة النفسية المتخصصة في شؤون الأطفال والمراهقين، جومانة عمّار. وتشرح في حديث خاص مع "العربي الجديد"، كيفية التصرّف وإيصال خبر الموت للأطفال منذ سنّ الثالثة وحتى البلوغ. تقول عمّار: "قد تختلف طريقة الإعلان، لكنّ الخبر هو خبر، والحقيقة واحدة. لا يمكننا القول لطفل في الخامسة إنّ والدك الذي فقدته، سافر مثلاً إلى السماء لكنّه سيعود بعد سنوات. ماذا تفعل الوالدة عندما يكبر طفلها ويسألها: أين أبي؟ لماذا لم يعد؟ لن يصدّقها أبداً وسوف يفقد ثقته بها، فيما تلحق هي الأذى به لأنّ مصدر الأمان الأول بالنسبة إليه هو الأهل".
وتشدّد عمّار على "ضرورة قول الحقيقة مباشرة عند حدوث حالة وفاة، وعدم ترك الطفل يكتشف الخبر من الغرباء صدفة، إذ إنّ ذلك سوف يدفعه إلى التفكير بطريقة مخيفة ومرعبة، وقد يشعر بأنّه مذنب وهذا أمر خطير". تضيف: "في حال لم تتمكّن الوالدة أو الوالد من إخبار الطفل بما حصل، يوكل الأمر إلى شخص قريب جداً من العائلة، بالتحدّث إليه بحضورهما أو حضور أحدهما. ويمكن لهذا الشخص أن يمنح الحنان للطفل من خلال احتضانه وتقبيله مثلاً لمنحه شعوراً بالأمان".
وتتابع عمّار أنّه "لا بدّ من مراعاة سنّ الطفل. ما بين الثالثة والسادسة، يظنّ الطفل أنّ الموت مؤقّت والشخص الذي توفي سوف يعود لاحقاً. هو لا يملك القدرة على إدراك مفهوم الموت. أمّا ما بين الخامسة والتاسعة، فإنّ الطفل يبدأ بإدراك مفهوم الموت وبأنّ كلّ الكائنات الحيّة سوف تموت في يوم. لكنّه يرى أنّ الموت لن يصيب من يخصّه من أهل وأقارب وحتى حيوانات أليفة. أمّا في عمر المراهقة، فإنّ الطفل يستوعب فكرة الموت الذي لا عودة منه وأنّه أمر يصيب جميع الناس من دون استثناء".
وتشير عمّار إلى أنّه "لا بدّ من توقّع ردود فعل مختلفة من قبل الطفل. مثلاً، قد لا يفهم ما قيل له وترتسم على وجهه علامات الاستغراب، أو قد يجهش بالبكاء أو يغضب أو يضحك لأنّه لا يعلم الطريقة المناسبة للتعبير عن مشاعره. لذا، لا بدّ لناقل الخبر من أن يصبر ويجلس مع الطفل ولو لساعات بعد إعلامه بما حدث، ويعطيه الأجوبة المناسبة على أسئلته". لكن من المهمّ ألا نبالغ في الشرح، فلا نقول مثلاً إنّ المرض كان شديداً وقاسياً حتى لا يخاف من فكرة المرض عموماً". تضيف أنّ "في إمكان الأهل بعد مرور أسبوع، طرح أسئلة بسيطة على الطفل لاستنطاقه ومعرفة ما إذا كان يلوم نفسه أو يفكّر في أمور مخيفة بسبب الموت. على سبيل المثال: هل اشتقت لجدتك؟ هل تذكر كيف كانت؟".
وتكمل عمّار أنّ "إعطاء البديل عن الموت يكون بالتحدّث ومنح الحنان للطفل. في الخارج، تربية الحيوان أمر مهم جداً لدى الأهل. البعض يشتري كلباً لطفله في حال فقد أحد أصدقائه أو محبّيه. بذلك يعوّضه فقده ويمنحه شعوراً بأنّ شيئاً لم يتغيّر عليه. كذلك، يتعلّم من خلال الحيوان فكرة الموت، عند نفوق قطه أو عصفوره مثلاً. لكنّ هذه الفكرة غير رائجة في لبنان والعالم العربي، لأنّ عائلات كثيرة لا تتقبل الحيوانات على أنواعها في منازلها. وتقول إنّ "الوالدين قد يلجآن إلى الكتب والقصص وأفلام الصور المتحركة لإيصال الفكرة. ويفضّل عادة أن تقرأ الكتب على أن تترك المساحة الحرّة للطفل لمشاهدة الأفلام المليئة بقصص الموت والرعب، التي قد تترك أثراً سلبياً على الأطفال".
وتلفت عمّار النظر إلى أنّ "حضور الطفل الجنازة أمر مهم، ويجب أن يمنح حرية قرار الذهاب أو عدمه. كذلك، يجب أن يهيأ نفسياً ويقال له: هذا المكان سوف يكون مليئاً بأناس يبكون على من توفي، وهم كانوا يحبونه كثيراً، لذلك لا تستغرب ممّا قد تشاهده من حزن وغضب وألوان قاتمة سوداء".
وتنبّه عمّار إلى "ضرورة التعامل مع عقدة الذنب والقتل والوفاة بمنطق ونضوج. مثلاً، قد يشعر الطفل بعقدة ذنب من جرّاء وفاة أخيه الصغير في حادثة سير، إذ يظنّ أنّه السبب في ذلك لأنّه لم يرعه جيداً. هنا، يقع على عاتق الأهل تفسير الحادثة وكيفية وقوعها وأنّ عمره انتهى. وفي حال لم يعلم الأهل سبب الوفاة، بإمكانهم البوح بذلك بصدق والتعبير عن غضبهم كذلك، خصوصاً إذا كان الطفل في العاشرة من عمره وما فوق. وفي حال تأزمت حالة الطفل النفسية ولم يقتنع، ينصح بالتوجّه إلى معالج أو طبيب نفسي". وتلفت إلى أنّ "الطفل الذي توفي والده أمامه في الحرب وغيرها من الظروف، من الممكن أن تنشأ لديه نزعة انتقامية من المجتمع أو يدخل في حالة من الاكتئاب، خصوصاً أنّه لا يعرف كيف يعبّر عن مشاعره الحزينة وما يمرّ به من ظروف قاسية. الحلّ الوحيد هو التحدّث والانفتاح على الطفل ومنحه المساحة الخاصة للتعبير ومشاركة مشاعره مع الآخرين".